قبل فترة طويلة عندما كانت دار الملايين تترجم الأدب الروسي وتملأ به المكتبات السودانية وبثمن زهيد اشتريتُ كتاباً للكاتب الروسي مكسيم جوركي بمبلغ 3 قروش وكان بعنوان «مخلوقات كانت رجالاً» وهو مجموعة قصصية ممتازة أفلح المترجم في ترجمتها وإن كان الاعتقاد السائد أن «المترجم يخون النص». ومنذ ذلك الوقت شعرت أن بعض المخلوقات والتي نسميها «رجالاً» حسب المفهوم السوداني للرجالة «شهامة ومروءة ونخوة وصدق.. ومقنع الكاشفات.. ورباي اليتامى.. وعشا البايتات.. ومدرج العاطلات والوحلانات... إلخ» خانوا تلك التسمية... ولذلك نسمع كثيراً تلك الجملة تردد.. دا ماراجل... وتقف الجملة هنا... ولا تقول لنا ما هي صفته ونعته طالما إنه «ما راجل».. وحتى لا تفهمني قبيلة النساء خطأ.. فإنهم لا يقصدون إنه «امرأة».. بل هو شيء مخالف لما اعتاد الناس عليه من سلوك رجولي... ولكن صنف المخلوقات التي أستعرض مثالين منها في هذه الغيبونة.. تستعصي على الوصف.. ونغلط كثيراً عندما نصف بعض الناس أنهم وحوش... فالوحوش بريئة براءة الذئب من دم ابن يعقوب فالذي فعله إخوة يوسف.. ليس من فعل الوحش. ولهذا لا أستطع ان اصف هؤلاء بأنهم وحوش لأن الوحوش لا تقتل من أجل المتعة ولا تخطط للإضرار ببعضها وكل سلوكها مرتبط بالبحث عن غذائها والدفاع عن النفس.. وليس صحيحاً ان: حب الأذية من طباع العقرب.. وكمثال أعيد عليكم من الأرشيف ما كتبه الأخ الكاتب الكبير الدكتور زهير السراج في بابه «مناظير» بجريدة الأيام بتاريخ 5 نوفمبر 2001م هو يحكي عن قصة حقيقية.. بطلها سوداني.. من «رجالات» السودان.. يقول الدكتور: شابة.. في منتصف العشرينيات.. جميلة جداً. متوسطة القوام.. سمراء.. خريجة.. جامعية.. يكسوها الحزن. وتغمرها الدموع.. ووسط الدموع سردت مأساتها بكل تفاصيلها ووقائعها وفظائعها وباختصار شديد وبدون الدخول في التفاصيل. قبل ثمانية أعوام تقدم لها شاب متعلم.. مغترب.. متوسط الثراء.. يعمل في وظيفة مرموقة في دولة خليجية تم عقد القران بين زغاريد الفرح وأهازيج الموسيقا على ان تكتمل مراسيم الزواج.. بعد عام.. ثم سافر الى مكان عمله. ودارت الأيام واكتمل العام.. وجاء الزوج في اجازته السنوية.. وبدأت الاستعدادات للزواج.. اشترى الزوج شقة فاخرة.. وشرع الزوجان السعيدان في تأثيثها وتطلب هذا وجودهما في الشقة لوحدهما في بعض الأحيان.. وهنا بدأت فصول المأساة فالزوج الذي لم يدخل على زوجته رسمياً.. حسب التقاليد السودانية بل دخل بها.. عملياً وشرعياً.. وتعددت مرات الدخول.. وانتهت الإجازة وسافر الزوج بدون اكتمال مراسيم الزواج.. وظلت الزوجة في نظر أسرتها المحافظة والمجتمع فتاة عذراء في انتظار الزوج. تكرر نفس الموقف... في السنوات اللاحقة وفي كل مرة تطلب فيها الزوجة انهاء هذا الوضع الشاذ... لا تجد.. «اجابة واضحة من الزوج» الى ان وجدت نفسها تحولت الى «صاحبة» بورقة وعقد رسميين.. طلبت منه ان يطلقها.. رفض.. طلبت منه ان يكمل مراسيم الزواج.. رفض. طلبت منه ان ترافقه الى مكان عمله في الخارج.. رفض. عندما هددته برفع دعوى طلاق.. ضحك وقال لها انه سيبوح بكل شيء امام المحكمة وعليها ان تتحمل النتائج أمام اهلها المحافظين المتزمتين والمجتمع الذي لا يرحم.. والأكثر غرابة.. انه أصبح يتصل بها هاتفياً من الخارج لساعات طويلة خلال الليل ويطلب منها اشياء غريبة.. لا يمكن تلبيتها عبر الهاتف.. «الا انها تجد نفسها مرغمة على المشاركة في التمثيلية التلفونية اليومية..» ولا تجرؤ على قطع الاتصال.. لأنه يهددها بإرسال رسالة الى اهلها بتوقيع شخص آخر... يحكي فيها كل شيء.. ومرت ثماني سنوات.. وهي في هذا الوضع المأساوي المرعب.. «صاحبة عند اللزوم».. بقسيمة زواج شرعي.. وهي لا تدري ماذا تفعل غير ان تستسلم للدموع والأحزان والرعب.. وشهوات الزوج الغريبة عبر الهاتف ويقتلها الخوف من افتصاح امرها.. وكل شيء يهون حتى الموت او الانتحار الا ان يعرف أهلها القصة.. وهذه هي القصة.. بكل خيوطها المأساوية.. صناعة سودانية.. مائة في المائة.. بطلتها سودانية.. والخائن سوداني ولا تزال مكالماته الهاتفية الغريبة تمزق صمت الليل.. وتبث الرعب في قلب المجتمع.. المستسلم لخياله الزاهي الجميل». هنا تقف اللغة عاجزة عن أن تجد وصفاً لمثل هذا الشخص.. كما وقفت عاجزة من قبل عندما حدثت واقعة أخرى استمرت مثل كابوس او فيلم طويل امتدت حلقاته لسنوات.. أحضر الرجل ابنه الصغير لإلحاقه بالمدرسة المتوسطة في ام درمان.. وتركه مع أخيه وعاد إلى الشمالية.. تربي الابن وسط ابناء وبنات عمه الذين رحبوا به وبالطبع عدّوه واحداً منهم.. وذات يوم جاءت اخوات الولد الى عمهن في ام درمان في زيارة اسرية وقضين زمناً ثم أردن الرجوع الى الشمالية.. فنادى العم على الولد ابن اخيه وقال له : - أوخواتك باكر مسافرات وعايزك تمشي تحجز ليهم في القطر وهاك القروش دي اركب امشي اعمل الحجز.. واقطع التذاكر.. إلا أن الولد لم يفعل شيئاً من ذلك مما أغضب عمه.. فاضطر ان يذهب بنفسه ليقوم بالحجز وشراء التذاكر لسفرية القطار التالي.. فقد تسبب ذلك في تأخير سفر البنات بينما كان والدهن ينتظرهن في المحطة في الشمالية. وكتب الرجل خطاباً لأخيه.. يشرح فيه حال ابنه ويقول له.. إن ابنه يقضي معظم الوقت يلعب مع اولاد الحي ولا يلتفت لدروسه ولا يهتم بما يطلب منه عمله.. وانه لا ينفع وعليه ان ينصح ابنه ويوجهه ويطلب منه الكف عن اللعب والالتفات لدروسه.. وعندما عاد الابن في اجازته السنوية.. اعطاه والده خطاب عمه ووبخه ونصحه بأن يسمع كلام عمه وأن يجتهد في دروسه والا فإنه سيكون شخصاً لا ينفع كما جاء في الخطاب. عاد الولد إلى بيت عمه في ام درمان بعد ان انتهت الإجازة وتغير سلوكه الى الأحسن.. فأخذ يهتم بدروسه.. ودخل المرحلة الثانوية واجتازها بنجاح ثم دخل الجامعة.. وتخرج في احدى كلياتها وتم توظيفه في وظيفة محترمة في احدى الوزارات. وبعد مرور عام.. فاتح الشاب أباه في رغبته في الاقتران بإحدى بنات عمه وقد رشحته الوزارة لبعثة إلى بريطانيا.. وهو يود ان يتزوج وأن يأخذ زوجته معه.. وكعادة الأسر في مثل هذه الحالات.. تم عقد القران والزواج وكان الجميع في المطار يودعون الشاب وعروسته ابنة عمه وهما في طريقهما للقاهرة لقضاء اسبوع هناك قبل التوجه الى بريطانيا. تحكي البنت العروس لأهلها ودموعها تنزل امطاراً.. ان ابن عمها وهما في غرفتهما في احد فنادق القاهرة أخرج لها خطاباً قديماً.. «ذلك الخطاب الذي كتبه عمه لوالده يشتكي فيه من سلوك ابنه وانه لاينفع..الخ» والعروس قرأت الخطاب ولم تفهم شيئاً.. فقال لها: - الجواب دا كتبو ابوكي لأبوي.. ودي فكرتو عني أنا مابنفع وأنا الزول الما بنفع دا هو ما صدق لما أنا خطبتك منو.. وزوجني ليكي.. وأنا أتزوجتك بس عشان أوريهو إنو أنا الما بنفع دا أهو نفعت وهو زوجني بنته.. وعلى أي حال.. إنتي طلقانه ودي ورقتك وتأخدي الجواب دا معاكي توديهو لأبوكي وتقولي ليهو الكلام دا.. حكى لي هذه القصة أحد افراد الأسرة وطلب مني أن أنشرها وأن أعلق عليها ولكني لم أفعل لأني عددتها نموذجاً فردياً لا يمثل أية قاعدة في السلوك ولكني الأن أقرأ على صفحات الصحف.. ما تتضاءل امامه هذه الحكاية.. والأمثلة كثيرة ومتعددة لمخلوقات كنا نظنها رجالاً.. ولا أحد يدري اين يجرفنا هذا الانحدار.. فالقاع عميق.. عميق جداً.. وآسن. ولكن ثقتي أن أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في عموميتها لا تجتمع على خطأ.