نحن السودانيين مصابون بلوثة تُعرف في الأوساط الطيرانية بالعفش الزائد.. ولا بد أن يكون العفش زائداً حتى يُعتمد كعفش وما عداه هي «كراويش» ساكت. فكيف يمكن لمغترب أن يعود دون عفش زائد.. السيد مشلهت مصر أن يسافر وموظف الطيران صاحبه ينصحه أن يؤجل السفر وهو لا يقبل.. وظل على ذلك الحال حتى جاء اليوم المحدد للسفر وعليه أن يحضر في الساعة الرابعة مساء .. لأن الطائرة ستقلع بإذن الله في الثامنة مساء نفس اليوم .. المطار مكتظ بجحافل البشرية السودانية التي جاءت على ظهر كل ضامر ميكانيكي من صنع اليابان ومعها من العفش أكوام ولا أراك الله عفشاً في عزيز لديكم. وقف السيد مشلهت في الصف ولم يبق بينه وبين الميزان إلا شخص واحد من جهابذة المسافرين .. حمل من كل نوع شنط جوزين وكأنه يريد أن يحسن نسل الشنط في السودان فقد كانت هناك شنطة منتفخة الأوداج وهناك شنط منبعجة وهناك شنط كروية تحمل توقيع رحلة سعيدة وشنط حبلى في شهرها التاسع وحسب قانون اياتا لا يجوز أن تسافر وهي على تلك الحالة فربما جاءها المخاض وهي في الكارقو وإذا أردت أن تتحدث عن أشكال الشنط التي أعدها ذلك الرجل ليصطحبها معه داخل الطائرة على أساس أنها صغيرة وخارج الهيئة والعداد .. فحدث ولا حرج أو بالطبع لا ينسى ذلك الرجل الجهبوذ ذلك المشمع الذي يشبه الخيمة والذي تلف بداخله الأشياء فيبدو منظره كالجثة الملفوفة . ولكن معليش فقد اتضح أنها جثة ماكينة عربية.. يود أن يدفنها في بطن بودي حديدي في السودان. والغريب في الأمر أن الوزن المثبت على كبون التذكرة هو عشرون كيلوجراماً فقط إلا أن الرجل الجهبوذ يبدو أنه كان يظن أنها عشرون كيلومتراً وعليه اندهش بدرجة كبيرة حتى سقطت عمامته وهو يسمع موظف الخطوط يقول له إن وزنه الزائد يساوي 400 كيلو وأنهم سيتظارفون معه جداً لأن الظرف من شيمة الخطوط وسيتنازلون له عن مائة كيلو بالتمام والكمال وعليه فقط أن يدفع رسوم 300 كيلو .. واستمرت مناقشة امتدت لساعة كاملة ومشلهت واقف في الصف يتململ في وقفته وهو يستمع إلى ذلك الرجل الجهبوذ يتوسل ويستعطف وينكر أنه ليس بصاحب كل ذلك العفش وأن الجماعة كلفوه بأخذه معه.. وأنه لا يملك في جيبه أي أموال .. ولو كان يملك لما بخل على الخطوط وموظف الخطوط يحاول أن يفهم ذلك الرجل أنه يجب ألا يتوقع منهم أن ينقلوا له 400 كيلو مجاناً .. لأنهم إذا فعلوا فإن اياتا ستطردهم من جميع المطارات وأنهم لن يستطيعوا بعد اليوم أن يلزموا أي شخص بدفع رسوم عفش زائد. الوقت يمضي ومشلهت لا يعرف كيف يتصرف وأخيراً ينقل عفشه إلى صف موظف آخر وهو يتحسر على الوقت الذي قضاه في انتظار أن يوزن لذلك الشخص الجهبوذ.. ووجد نفسه يبدأ من جديد في هذا الصف الطويل ولكنه على أية حال أرحم من ذلك التوتر الذي انتقل إلى جميع الواقفين في الصف الذي احتله الشخص الجهبوذ ورفض أن يتزحزح عنه أو يدفع الرسوم. ومضى الوقت بطيئاً لأن احدى الشنط في الصف الجديد تعثرت في المرور عبر الميزان والسير ورجعت أدراجها وكان على صاحبها أن ينقلها للتفتيش فربما كانت في داخلها قنبلة، وتوقف الوزن إلى أن عاد صاحب الشنطة بها بعد أن اتضح أن بداخلها طفاية .. إذ أن ذلك الرجل التفت إلى الواقفين قائلاً: تتصور الحكاية دي كلها طفاية وبس.. وهنا تساءل مشلهت بصوت مسموع. طفاية حريق؟ ورد صاحب الشنطة.. حريق بتاع شنو؟ دي طفاية سجاير بس نوع محترم. وطيب وكت هو نوع محترم ليه ماوديتو VIP وضج الواقفون بالضحك.. فقد كان مشلهت بالرغم من شلهتته تلك يتمتع بروح مرحة، أخذ الجميع يتكلمون عن أضرار السجاير وماهي الحكمة أن يأخذ الشخص طفاية سجاير للسودان «وهو ذاتو السجاير البطفوهو دا بكم». وهذه المرة توقف السير عن العمل من تلقاء نفسه ويظهر أن الأحمال والأثقال التي حملت عليه قصمت ظهره .. ومضت مدة قبل أن يشير موظف الخطوط على الجميع أن يتحركوا لخط آخر .. ولك أن تتصور مدى «الهرجلة» التي حدثت وكل واحد يحاول أن يحمل ماعنده من أثقال شاقة إلى الخط الآخر وعندما تنبه مشلهت لحاله وجد أنه الآن في آخر الصف الجديد.. فصاح في الجميع. يااخوانا . خليكم في الصف حسب وضعنا القديم وأنا جيت هنا أول واحد ودلوقت بقيت آخر واحد.. ولكن أحداً لا يلتفت اليه بل اصطفوا في تشكيلة جديدة أو «تفريقة» جديدة... آخر شخص فيها هو مشلهت. ومضت الساعات بطيئة. والشنط تمر وتتوقف ثم يكشف عليها وتعطى جواز مرور وآخر يجادل في الرسوم التي يجب عليه أن يدفعها لزيادة العفش وهكذا حتى أعلن الموظف أن الميزان قد أغلق . وأن الذين لم يزنوا عليهم مراجعة موظف الحجز حتى يدبر لهم وقتاً جديداً وهنا انهار السيد مشلهت انهياراً تاماً فقد جلس على احدى شنطه وهو لا يعرف هل يبكي أم يصرخ أم يترك السفر كله. وبينما هو في أزمته تلك تقدم منه أحد الأشخاص قائلاً: ياخوي أنت اسمك مشلهت؟ وعندما رد مشلهت بالإيجاب .. قال ذلك الشخص والله الحكاية عجيبة .. تصور أنا اسمي ملهله وأنا في اللهلهة دي لقيتك انت في الشلهتة دي .. يخلق من البشتنة أربعين . وصاح مشلهت وقد انبسطت أساريره . أربعين يا اخي قول ألف .. قول مليون .. دي حكاية خليها ساكت. وأمام موظف الحجز كان مشلهت يقف صاغراً وهو يستمع إليه وهو يقول: يااخي قلنا ليك عندك حجز مؤكد سنة 2020 أبيت تسمع كلامنا. آخر الكلام. لا توقفوا الركشات.. ولكن ألزموا سائق كل ركشة أن يزيل ما ركبه على عادمها من مفرقعات صوتية. حاربوا التلوث الضوضائي فإنه ضار بالصحة ويسبب التوتر.