حلت علينا هذه الأيام، أيام الله المباركات التي جاء ذكرها في القرآن الكريم تشريفاً لها، وتخليداً لمناسبتها كل عام في حياة المسلمين، وهذه الأيام هي العشر الأوائل من شهر الله المحرم ذي الحجة... حيث يقول الله عز وجل «وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ» الآيات 1 5 سورة الفجر.. وقوله تعالى «والفجر وليال عشر..» قسمٌ بهذه الأشياء والواوات الأربع هي واوات القسم.. والله تعالى لا يقسم إلاّ بعظيم من مخلوقاته، حيث أقسم بالعصر والشمس والقمر والنجم والنبي والقرآن قال تعالى «والعصر إن الإنسان لفي خُسر» وقال «والنجم إذا هوى» وقال «لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون» يقسم بنيه محمد عليه الصلاة والسلام وقال «ق والقرآن المجيد» وفي العقيدة الإسلامية يحق لله عز وجل ربنا الخالق المصوِّر أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته فهو «ليس كمثله شيء وهو السميعُ البصيرُ» بينما لا يجوز للإنسان أن يحلف بشيء سوى الله.. فلا يجوز الحلف بغير الله فهو شرك وكفر بالله تعالى.. فلا يشرع الحلف بالملائكة والأنبياء والصالحين والليل والنهار والآباء والأجداد.. ولا بالكعبة المشرفة والأولاد والطلاق والدهر والطعام.. وكل شيء مخلوق سوى الله.. ولذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث «من حلف بغير الله فقد أشرك» وفي رواية أخرى «فقد كفر» وقال في الحديث الآخر «لا تحلفوا إلاّ بالله، ولا تحلفوا إلاّ وأنتم صادقون» وقال «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت». أقسم الله تعالى بليالي ذي الحجة العشْر لعظمتها في التاريخ الإسلامي من حيث القدوة، ولمكانتها الرفيعة في العقيدة الإسلامية من حيث التشريع والعبادة، فإذا كانت ليالي شهر رمضان التي فيها الليلة المباركة «ليلة القدر» أفضل الليالي عند الله تعالى، فإن العشر الأوائل من ذي الحجة أفضل الأيام عند الله نهاراً.. قال رسول الرحمة محمد عليه الصلاة والسلام «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحبّ إلى الله من هذه الأيام» فقام رجل من الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً فقال يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام «ولا الجهاد في سبيل الله، إلاّ رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع بشيء» يعني هلك هو وماله في سبيل الله. هذه الأيام تقع في أشهر الله الحُرم التي هي أربعة، ثلاثة منها متتالية وواحد منها منفرد، وهي محرم وذو القعدة وذو الحجة ورجب، وقد ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم قال عز من قائل «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» سورة التوبة «36» وهذه الأيام المباركة هي خاتمة المسك في موسم إجابة المنادي إلى بيت الله الحرام الذي هو سفر قاصد يعرف في الإسلام بالحج.. وهو السعي بنية وشوق طلباً للعبادة نحو بيت الله الحرام في مكةالمكرمة التي تسمى أيضاً ببكة وأم القرى وأرض الحرمين، وهي مبعث الدعوة الحنيفية المحمدية الإسلامية دعوة التوحيد والدين الخالص لله تعالى، وهي دار مولد ونشأة وبعثة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام.. وثاني القبلتين بعد الأقصى القبلة الأولى التي نسخت بقوله تعالى «فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام» والمسجد الحرام في مكة.. وهو الكعبة المشرفة بيت الله الحرام الذي هو أول بيت وضع في الأرض.. قال تعالى «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ» وإبراهيم هذا.. هو إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام أبو الأنبياء وإمام دعاة التوحيد.. وهو الذي بنى الكعبة المشرفة. هو وابنه اسماعيل عليهما السلام يقول الله تعالى «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ». وبناية البيت هذه التي بناها إبراهيم وإسماعيل هي الثانية، فأول بناء بنته الملائكة ثم بُني ثالثة في الجاهلية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لما جرفت السيول شيئاً منه أو هدمته، فتنادت إليه قبائل العرب فبنته وإلى هذا أشار حكيم الشعراء الجاهليين، وإمام الطبقة الأولى في الأدب العربي الجاهلي صاحب المعلقات والحوليات الشهيرة زهير بن أبي سلمى حين قال: أقسمتُ بالبيت الذي طاف حوله.. رجال بنوه من قريش وجُرهم يميناً لنعم السيدان أنتما .. على كل حال من سحيل ومبرمِ تداركتما عبساً وذبيانَ بعدما.. تفانوا ودقوا بينهم عطر منْشمِ هنا تراه أقسم بالبيت الحرام الذي قلنا لا يجوز الحلف به في أول هذا المقال.. والشاهد : قال رجال بنوه من قريش وجرهم، يعني الكعبة المشرفة وجرهم قبيلة عربية يمنية هاجرت من جنوب الجزيرة العربية إلى أرض الحجاز، وجاورت الكعبة وماء زمزم المبارك بعد انهيار سد مأرب في اليمن، وهي التي نشأ فيها إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وتربّى فيها وتزوج منها، ومنه جاءت كنانة ومن كنانة جاءت قريش ومن قريش جاء بنو هاشم ومن بني هاشم جاء النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ومنشم أمرأة عاشت في الجاهلية كانت تتاجر بالعطور فأتي إليها قوم وابتاعوا منها عطراً، فتعطروا به ثم تعاهدوا ودخلوا حرباً فماتوا جميعاً!! فصار عطرها هذا مضرباً للمثل في الشؤم عند العرب.. غير أن الإسلام حين أتى إليهم نفى هذه العادة.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا طيرة ولا هامة ولا صفر» وفي القرآن من سورة يس حين قال أهل القرية «قالوا إنا تطيّرنا بكم..» رد عليهم الرسل من القرآن «قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ» سورة يس «19» وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا البناء قبل البعثة وهو الذي وضع الحجر الأسود موضعه بعد أن تنازعت العرب في شرف وضعه موضعه ثم توافقوا عليه عليه الصلاة والسلام فوضعه فكان له هذا الشرف.. ولِم!! كان العرب قبل الإسلام يطوفون بهذا البيت ويقصدونه حاجين إليه، وكانت تسيطر على إدارته قريش سيدة مكة والعرب، وكان البيت هذا بجانب أنه قبلة روحية للعرب.. كان أيضاً مركزاً تجارياً واقتصادياً مهماً.. ونادياً اجتماعياً وثقافياً وأدبياً شهيراً، تعمه الوفود في موسم الحج من كل حَدَب وصوب ومن جميع أطراف وديان شبه جزيرة العرب المباركة، يبتاعون ويشترون ويتسابقون ويتبارَون في نظم الشعر وقرضه ويتنافسون في براعة الخِطابة والنثر والبيان، ويشهدون منافع لهم.. وكانت لهم أيام ومنافرات وثأرات ومسابقات ومصالحات.. يحكّم فيها العقلاء والحكماء في عكاظ وغيرها. كان العرب يحجون إلى هذا البيت الشريف عادة وأخذاً بالأعراف السائدة لديهم، ويعبدون حوله أكثر من إله، وكان مضمون الحج حجاً يقوم على العادة ومعاني اللغة عندهم فحسب.. حيث كان هو مجرد القصد إلى هذا البيت.. فلما جاء الإسلام نقل الحج من معناه اللغوي «القصد» والممارسة بدوافع العادة إلى معناه الشرعي بدوافع العبادة لله.. بل صار أعظم الشعائر بعد الصلاة، ومؤتمراً إسلامياً جامعاً لأبناء ملة الإسلام التي شعارها الخالد «لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله». وتحولت أعمال الحِجابة التي هي توفير الحماية والرعاية و الأمان، والسِقاية التي هي بذل ماء الشرب لضيوف البيت، والرِفادة التي هي تقديم الطعام لحجاج البيت، والعمارة التي هي الاعتناء بالبيت طهارة ونظافة وتهيئة وضيافة وذكراً وعبادة وتلبية.. تحولت كل هذه الأعمال من مجرد عادة يفعلها الأشراف وفضلاء القوم إلى عبادة يُرتجى بها وجه الله وحده.. وصار بذلك الحج هو قصد بيت الله الحرام لأداء ركن من أركان الإسلام بطريقة مخصوصة ومناسك معلومة شرعاً في وقت ومكان معين حدده الشارع «خذوا عني مناسككم» حديث نبوي شريف. لكن للأسف صار الحج اليوم عند بعض الناس للتباهي الاجتماعي والسمعة التي تُخرجه من كونه عبادة عظيمة إلى مجرد عادة يفعلها الأغنياء، ويتطلع إليها بشتى السبل لبلوغها الفقراء، والأمر ليس كذلك فلا بد من استطاعة ومال حلال ونية صادقة وعقيدة صحيحة تنفي الشرك والبدعة والشعوذة، ليُتقبل دعاء القائل «لبيك اللهم لبيك». ومن الأخطاء فيه تزيين بيوت من ذهبوا إلى الحج والكتابة على جدرانها «يا داخل هذه الدار، صلِّ على النبي المختار، حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً» وهذا يفتح باب السمعة والتزكية.. من الذي أدراك أنه حج مبرور، وأن السعي قد شُكر..؟ الغيب والعلم عند الله. ومن الأخطاء أن بعض من ذهبوا إلى الحج يعودون إلى معاصيهم بعد أن طهرهم الحج منها وعادوا خالين من الذنوب كيوم ولدتهم أمهاتهم .. يعودون إلى كبار المعاصي مرة أخرى.. وأنا أعرف أن أحدهم حج إلى بيت الله الحرام ثم عاد وانضم إلى الحركة الشعبية «لتحرير السودان» من الإسلام وثقافة لغة القرآن!! والأمر هذا من الأخطاء ينطبق أيضاً على الأضحية التي هي من أعظم النسك صارت هي الأخرى في المدن وبعض الريف عادة عند كثير من الناس وهي العبادة العظمى، فترى كثيراً من الناس يبذل مجهوداً يُخرجه عن طاقته ووسعه في سبيل أن يحصل على الخروف.. ويعلل أن الأطفال لا يرضون إلاّ به.. وآخر يُحضره مبكراً إلى المنزل ليُحدث صوتاً ودوياً عند الجيران ليقول أنا موجود ههنا..!! وآخرون يذبحونه ويسلخونه في عتبة الباب ليعلم الداخل أن هنا أضحية.. وآخرون يستأثرون به فلا يتصدقون من بعضه على جار محروم أو قريب مسكين، بل يدخر في الثلاجة! والصواب أن يتصدق ببعضه ويأكل منه ويدخر.. وآخرون يسخطون إذا حُرموا منه ويشكون الحال.. وآخرون. وآخرون.. الأضحية إنما تكون بالاستطاعة «ولا يكلف الله نفساً إلاّ ما أتاها» فلا حزن ولا جزع، ومَن منّ الله عليه بها فليتقِ الله ربه فيها ويجعلها عبادة خالصة له، يكسب بها التقوى والزلفى والوسيلة إلى الله «لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ» سورة الحج «37».. ويراعي فيها حِكمة الإسلام كما قال القرآن «وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» الحج «36» ومن صفات الأضحية أن تكون سليمة سمينة معافاة من العيوب الظاهرة كالعمى والعرج البيّن والعور والهزال والضعف الشديد، وان تستوفي السن المحددة شرعاً، وتكون من الغنم والبقر والإبل.. ويحسُن ذبحها خلافاً لبعض الذباحين الذين يتسابقون إلى البيوت بنية تحصيل أكبر قدر من الذبائح لنيل الأجور واللحوم.. ويستحسن أن يذبح المضحي أُضحيته بيده ويكبر الله ويسميه.. ولا يجوز بيع شيئء من لحم الأضحية أو جلدها.. ويسن للمضحي أن يمسك عن شعره وأظافره، فلا يأخذ منها شيئاً في هذه الأيام العشر حتى يذبح يوم النحر أو الأيام التي تليه، وهي الأيام الثلاثة التي تُعرف بأيام التشريق غير يوم النحر، ويسن أيضاً للمضحي أن يصبح صائماً يوم النحر إلى بعد صلاة العيد ليأتي ويذبح أضحيته ويفطر منها. إن أعظم الأعمال الصالحات بجانب إراقة الدماء يوم النحر هي المحافظة على الفرائض والصلوات الخمس في وقتها وفي جماعة وتلاوة القرآن، ومطلق الذكر من تهليل وتكبير واستغفار وتوبة وصلاة على النبي وصلة الأرحام، وعون ذوي الحاجات والإحسان إلى الأيتام والفقراء، وذروة سنام هذه الأعمال الصالحات أن تتوج بصيام يوم عرفة الذي يكفر صومه سنتين سنة ماضية وأخرى مقبلة.. هذا جزء يسير من مقاصد الشرع في الحج والأضحية.. أن نعلم انهما عبادة وشعيرة عظيمة وليست عادة.. وكل عبادة يمكن أن تكون عادة مطَّردة وليس كل عادة عبادة.. والفيصل بينهما النية والإخلاص والمشروعية والمتابعة.. تقبل الله العمرة والحج والأضحية والصالحات ورشد الله الأمة وهدى.. وبالله التوفيق.