من روابي وتلال التاريخ، يتحدّر سيل العلاقات السودانية المغربية، ولم تنفصم العرى الموثقة في الراهن الحديث، وكثيراً ما يجترح السودانيون مساراً ينظرون فيه لما يربطهم بالآخرين بأسانيدهم ووثائقهم والمرويات التي جرت على الألسن لمئات السنين، وما أصدقهم في ذلك وأبرهم. وربما لم يتوافر سفر قيم عن أصل المغاربة في السودان في السنوات الأخيرة، مثلما برز كتاب الدكتور الفاتح علي حسنين، الذي صدر قبل سنوات قليلة حاملاً ملمحاً مهماً في مداميك البناء الاجتماعي المتصل بالمغرب وصلات الدم التي تربط جزءاً من السودانيين بأهله، أبان فيه الأصول المغربية في المجتمع السوداني، وحوى العديد من الأسماء والعائلات والعشائر والأفخاذ والبطون. لكن كل ذلك لا يغني عن العلاقة السياسية القوية بين البلدين عقب استقلالهما، فقد استقلا في عام واحد 1956م، وخلال فترات المواجهة مع الاستعمار البغيض مع القوى الأوروبية التي دخلت بلادنا وعاثت فيها فساداً وتنكيلاً، وظل الهم المشترك في حقبة الكفاح من أجل الانعتاق ونشدان الحرية دافعاً للتقارب والسير معاً، وكان ارتباط السودان والسودانيين بالنضال المغاربي في الجزائر والمغرب عاملاً من عوامل التواصل العميق بين البلدين، وذكر المناضل الإفريقي الكبير ورئيس جنوب إفريقيا الأسبق نلسون مانديلا، أنه عندما زار مطلع الستينيات من القرن الماضي قبيل سجنه الطويل وفي أول زيارة له خارج بلاده طاف فيها دولاً إفريقية مروراً بالسودان، وجد في معسكرات تدريب المجاهدين الجزائريين «قوات جبهة التحرير الوطني الجزائري» التي كانت تقام في الأراضي المغربية على الحدود قبل استقلال الجزائر، وجد رجلاً أسود البشرة يشرف على تدريب الجزائريين، فسرَّ مانديلا سروراً كبيراً واغتبط وطار جزلاً، فسأل مستضيفيه المغاربة، فقالوا له إن هذا الرجل خبير عسكري سوداني يشرف على تدريب المقاتلين هنا، كما أن عمليات توريد السلاح للكفاح ضد المستعمرين في بلاد المغرب العربي كلها كان يقوم بها سودانيون. وحين يتجول المرء في الدارالبيضاء أو الرباط أو مراكش أو تاطوين أو طنجة وغيرها من المدن المغربية، لا تخطئ عينه ولا دواخله هذا الحب الفطري والترحيب العفوي بالسوداني والسودانيين، ولا ينقطع ينبوع الثناء الذي يتدفق في أذنيه عن ذكر السودان بالخير.. ومن المؤكد أن العلاقة الثقافية والعلمية التي جمعت العلماء السودانيين مع العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني من خلال الندوات الحسنية التي كان يقيمها كل رمضان، ومن نجومها الكبار البروفيسور عبد الله الطيب رحمه الله، وغيره من العلماء والمؤرخين خاصة البروفيسور يوسف فضل حسن، أن هذه العلاقة العلمية والثقافية والاحترام الذي وجده علماؤنا في البلاط الملكي، قد أضافت الكثير لهذه الوشائج الأخوية. وظل التنسيق السياسي قائماً بين البلدين منذ الاستقلال، ولم تمر العلاقة بأية منغصات أو فتور وبرود، وساهمت فيها مشتركات مختلفة من انتهاج توجهات سياسية في البلدين داعمة للتضامن العربي ومحفزة للتعامل الإيجابي مع الفضاء الإفريقي، بالرغم من أن المغرب الآن لا ينتمي للاتحاد الإفريقي. وخلال عهد الإنقاذ سارت العلاقة بخطى ثابتة ومتوازنة، وتوجد اتفاقيات ثنائية في كل مجالات التعاون وصلاً لما سبق في مجال التعليم العالي والبحث العلمي والاستثمار، وتوجد اليوم في السودان استثمارات مغربية وتفاهمات في مجال التعدين في مجال الذهب والفوسفات والزراعة وغيرها، وقد اتخذ المغرب مواقف داعمة للسودان في وجه التحديات الخارجية ضده، وكان له موقف مشرف في قضية المحكمة الجنائية الدولية، ويتجه المغرب بعد إلغاء التأشيرات على الجوازات الدبلوماسية والرسمية الخاصة بالسودانيين إلى إلغاء التأشيرة بين البلدين. مع كل ذلك يوجد قلق حقيقي في المغرب وحساسية واضحة من انفصال دولة جنوب السودان، وهي في مقاربات المغاربة حالة شبيهة بقضية الصحراء الغربية، ومعروف أن حركة البوليساريو لديها علاقات مع الحركة الشعبية، وحضر وفد يمثلها الاحتفال بإعلان دولة الجنوب في يوليو 2011م. وينبغي أن تمضي هذه العلاقة لما هو أرحب وأشمل مع بلد عربي أصيل مثل المغرب، وهو موئل للعلم والفلسفة والفقه والتصوف، وله دوره التاريخي في الأزمنة الإسلامية ومازال. --- الرجاء إرسال التعليقات علي البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.