الذي يشاهد حركة العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث وهى ضاجة بأكثر من ثمانية ملايين نسمة هم عدد سكانها في وضعها الطبيعي لا يتخيل أنها سوف تخلو من هذه الأعداد يوماً من الأيام، أو تهدأ من ضجيجها وغرق شرايينها وطرقها من العربات وصراخ عوادمها، لكنها هذه الأيام قد فعلت وهجرها أبناء الأقاليم، وذهبوا لقضاء عطلة عيد الأضحى مع ذويهم وأسرهم هناك، وقد اتضح أن ثلثي سكان العاصمة من الأقاليم، وبرز السؤال الأهم ما الذي جعل الخرطوم جاذبة لمن يطلب الوظيفة والخدمات التعليمية والصحية وغيرها، وفى نفس الوقت طاردة لمن يريد راحة البال والهدوء والسكينة؟ لماذا لا تصبح بورتسودان أو دنقلا أو الأبيض أو الدمازين أو كادوقلى أو الدامر أو نيالا أو الفاشر مثلاً جاذبة للإقامة والعمل مثل الخرطوم التى احتملت كل هذا العدد؟ رغم أن بعض هذه المدن تمتلك مقومات جغرافية ومصادر اقتصادية وبنية تؤهلها لهذا الدور وزيادة، لكنها لم تبلغ مرحلة الجمال والجاذبية الخرطومية والمرحلة التى وصلتها المدن الثلاث «بحري، أم درمانوالخرطوم» واستئثارها بحب وطلب أهل أقاليم السودان.. وفي كثير من دول العالم نجد خدمات شبه متساوية بين مدن الدولة الواحدة، ففى السعودية مثلاً لا فرق كبير أو تمييز ما بين مدن الرياضوجدة والدمام والطائف، وكذلك الحال في بريطانيا حيث لا فرق بين من يقيم فى لندن أو ويلز أو برمنغهام سيتي أو مدينة الاقتصاد والمال ليدز، حيث نجد تقارباً بين هذه المدن، بل منافسة في التجارة ومراكز الاقتصاد والمال والاستثمار والخدمات التي تقدم للمواطن. وليست هناك عاصمة تستأثر بالمستشفيات وجودة التعليم والبنية التحتية الجاذبة للاستثمار، لكن عندنا الوضع غير ذلك، فأين المشكلة؟ وفي الولايات معدل البطالة متزايد، وكثير من أبناء الأقاليم يأتون إلى الخرطوم للعمل فى مهن هامشية أو عمالة يدوية في المصانع، فلماذا لا تخرج هذه المصانع والشركات إلى الولايات وتؤسس مصانع ومراكز صناعية موازية بدلاً من أن تتكدس في الخرطوم وأطرافها، ثم تعتمد على وكلاء أو فروع صغيرة في الولايات لتسوق عبرها منتجاتها؟ هل لأن الولايات غير مشجعة بسياساتها وقوانينها وخدماتها؟ أم أن القطاع الخاص مازال قطاعاً تقليدياً متمسكاً بالعاصمة؟ لماذا لا تطبع الصحف بالولايات إذا سلمنا بانتاجها وتحريرها في الخرطوم؟ للنائب الأول الأستاذ علي عثمان محمد طه فكرة تشجع الصحف على طباعة نسختها الولائية أو الإقليمية فى الولايات، فلماذا لم يتم اختيار مدن مثلاً تطبع فيها حصص الولايات من الصحف، فمدنى تطبع فيها صحف الإقليم الأوسط، والأبيض تطبع فيها صحف كردفان ودارفور؟ ولماذا لا يجدد شيخ علي دعوته ويقوم القطاع الخاص بالتقاط الفكرة وينشئ مطابع خارج العاصمة حتى يتمكن إنسان الأقاليم من قراءة الصحف في نفس الوقت الذي يقرأها فيه أهل الخرطوم؟ حتى تكون العلاقة بين المركز والأقاليم أكثر هدوءاً، بدلاً من حالة الشك والخوف الذي يصل حد الاقتتال أحياناً.. أقول هذا وأدرك أن للهجرة إيجابيات كبيرة في تحسين ظروف وبيئة المعيشة، لكن سلبياتها كبيرة وربما تؤدى إلى مشكلات تتطلب إجراءات سكانية ووطنية كما تم بولاية الخرطوم، وهو ما يتطلب وضع رؤية حضرية جديدة تؤسس على أولويات التوسع الحضري والخدمي والتنموي المتوازن بين كل أجزاء السودان، مما يجعل الحركة سهلة من وإلى العاصمة وبين الولايات المختلفة، وتوفير خدمات المياه والصحة والتعليم بشكل يحد من هجرة الأطراف للوسط وتحديداً العاصمة.. أقول هذا وأنا على يقين بأهمية الحياة في الأقاليم، وهي مليئة بأشكال الحياة وألوان البشر وسلوكهم القويم، بل طبيعة الريف جاذبة أكثر من العاصمة ذات الهواء اللاهب والعيش المشتعل غلاءً، وكذلك حياة الناس مفرطة بالأسرار والخبايا، وأحياناً تظهر فيها مشكلات معقدة لم يعرفها الريف المحتفظ بقيمه وكرمه ووده.. فالريف السوداني بيت واسع، وأكثر فائدة بقيمه وموروثاته وجمالياتها الطبيعية، وهو ما يجعل الناس يرحلون إليه فى كل عيد وإجازة رغم تكاليف السفر ومصروفاته المادية، لكن الذي يسافر سوف يأتي عائداً وهو محمل بالمعنويات وأشكال متعددة من الحكايات والقصص الموحية والملهمة التي ستكون له زاداً فترة طويلة من الزمن، وربما تعيد إليه ما فقده فى زحمة المدينة من قيم تكافلية وتراحمية أصيلة، كما أن القادم إلى الريف السوداني يجد نفسه محل اهتمام وكرم عند الناس هناك حتى يعود.. وبهذه الحصيلة لا بد من الاعتراف بأن كثيراً من سياساتنا بحاجة إلى مراجعة، ويجب أن نتوقف عند التحدي، وهو الأسباب التى أدت إلى الشعور بسيطرة المركز وإمساكه بالمفاتيح، بالرغم من أن معظم الحاكمين هم أبناء الريف والقرى، وكثيرون منهم شملتهم رحلة الهجرة إلى الريف في هذا العيد. ولذلك هم مطالبون بعد عودتهم بأن يقدموا دراساتهم ومشاهداتهم التحليلية لما وجدوه هناك من حال يشمل المجتمع والاقتصاد، حتى تعين رؤاهم وملاحظاتهم في تحديد وفهم الأسباب الحقيقية التي تقود الريف الوادع الحنون إلى بركان غضب أحياناً، وتسهم في وضع كثير من المعالجات السياسية والاجتماعية.