إدارة حوار عن المفهوم القرآني للإصلاح، يجعلنا بناة ولا نقف عند محطة الهدم إلا بالقدر الذى يجعل البناء متيناً، فالشعوب التى ثارت تطالب بالرحيل لم تكن تمتلك تصورات واضحة عن القدوم، فإن كان هنالك من سيرحل فهنالك من سيقدم، وإذا كان هنالك من سيسقط فهنالك من سيصعد، والتغيير فى لغة القرآن جاء فى سياق الذم لا المدح قال تعالى «وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا» النساء:(119)، وقال تعالى: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (الأنفال: 53)، أي أن الله ما كان ليغير ما بالناس من خير ونعمة حتى يتغيروا هم، ويتنكبوا الطريق فذكرها الله عز وجل فى سياق الذم بمعنى تنكب الطريق قال تعالى: «لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ» (الرعد: 11). سبحان ربنا عز وجل وهو يؤكد ذات المعنى أنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، والمقصود لا يغير ما بهم من نعمة وخير وتوفيق حتى يغيروا ما بأنفسهم لذلك جاء بعدها «وإذا أراد الله بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ» وهذا المعنى غير المحمود للتغيير ذلك لأن الأصل فى الإنسان الاستقامة والفطرة السليمة ثم هو يتغير ولا تسمى استقامته من بعد انحراف ولا هدايته من بعد ضلال تغييرا بل إصلاحا!! والنبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» _ وهو اللفظ الصحيح _ يبين هذا الفهم البنائي فى التعامل مع الواقع والمغبون من ينقض غزله لينسجه من جديد والعبقرية تقتضي استصحاب الخير كله معك والبناء عليه، والنبي عليه الصلاة والسلام يبدأ من ما انتهى إليه الأنبياء السابقون والإنسانية من قويم الأخلاق ودمث السلوك، فجاء متمماً لا هادماً للكل ولا مرمماً لباطل، والقائد من يستدعي الخير فى كل إنسان ليوظفه لصالح إقامة الدين، ولا يشترط فى توظيف الناس جميعا إلى الخير المطابقة، وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقوم بأخطر خطوة فى حركة الإسلام نحو التمكين وفى أحلك الظروف، والعرب مجتمعة على رميه من قوس واحدة، فيستعين بمشرك على أمر الهجرة إلى المدينة ليقيم الدولة، وفي صحيح البخاريّ: «استأجر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأبو بكر رجلاً مِن بني الدِّيل وهو مِن بني عَبدِ بن عَدِيٍّ هاديًا خِرِّيتًا -والخِرِّيتُ الماهرُ بالهداية- قد غَمَس حِلْفًا في آل العَاصِ بنِ وائلٍ السَّهميِّ وهو على دين كفَّار قريش فَأمِنَاه فدفعا إليه راحلتَيهما وواعداه غار ثَوْر بعدَ ثلاثِ ليالٍ براحِلَتيهما صُبْح ثلاثٍ وانطلَق معهما عامرُ بنُ فُهَيْرةَ والدَّليلُ فأخذَ بهم طريقَ السَّواحِل». يا سبحان الله، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجعل دليله فى أحلك ظرف، مشركاً يستدعى أفضل ما عنده أمانته ويوظفها لصالح مشروع إقامة الدين. ما أعظمه من قائد عليه الصلاة والسلام والفرق بيننا وبين المشروع الصهيوني الكوني أنه يوظف الأنصار والمؤيدين والمتعاطفين والمغفلين والبلهاء والمتفرجين والمحتارين والمحيرين، وأحياناً أعداءه لتحقيق أهدافه، بينما نحن نغرق فى شبر الأصفياء. فإصلاحنا تصليحنا للمفسد وتقويمنا للمعوج وتعديلنا للمنقلب والنجوى من الحديث تحرم إلا إذا كانت إصلاحاً لا إفساداً وبناءً لا هدماً وهى عندئذ خير عظيم «لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا» (النساء: 114)، وعندئذ يتنزل التوفيق من الله عز وجل على من كان صادقاً فيه رغم مطبات الطريق ومنعرجات المحن ونتوءات السير وعقابيل التربص، قال تعالى: «قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» (هود: 88)، والذى يوقع الفساد بين الجماعة الواحدة والعصبة المؤتلفة فيجعل سيوف بعض بنيها موجهة إلى صدور البعض الآخر هو ما وقع فيها من انحرافين عظيمين لا يرتفع بلاء التمزق الذى حل بها إلا إذا أقلعت عن هذين الانحرافين: 1- الظلم والانتقائية: يقول عليه الصلاة والسلام: «وما حكم قوم بغير ما أنزل الله وتخيروا من كتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» فى صحيح الترغيب والترهيب حديث رقم «2187». فالظلم والانتقائية فى تطبيق العدالة وأن تصبح المحاسبة يقف عند مقصلتها أقوام ويعفى منها آخرون صغار، أخطاء البعض فى أعين البعض جبالاً من الخطايا والخطيئة وجبال البعض فى أعين من يتولى الأمر حبيبات من الرمل، فلا إقالة ولا محاسبة ولا عقاب. فذاك ظلم إن ابتليت به جماعة أو كيان جعل الله بأسهم بينهم شديد وإصلاح الإعوجاج هذا بالاغتسال بماء التوبة وإعلاء قيم العدل والإنصاف والحكم بما أنزل الله فى سائر شأن الأمة وحياتها. 2- الفساد والاغترار بالدنيا: إن التقادم من غير تجديد والتطاول من غير تعهد يورث الغفلة والمرء حين ينسى مشروعه ومقصوده الحقيقي فى الحياة وينغمس فى الدنيا تكالباً عليها وتنافساً فى حظواتها، يقسو قلبه وينسى ما بينه وبين إخوانه من رابطة العقيدة وإلفة التوحيد ومحبة الإيمان، فيتحول الإيثار إلى ثارات والتناصر إلى تدابر والتآلف إلى تنافر والتشوين إلى تدوين!! وهذه عقوبة نسيان عهد السابقين. «فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ» (14). والعاقلون هم الذين يحللون أس الأزمة على نحو فكري عميق ثم يمضون فى إصلاح الطرفين وتعزيز قيم الإخاء على أسس العقيدة وإعادة الأمة إلى معاني إقامة الدين التى تعني أول ما تعني إقامة اللحمة القوية والفكرة الواضحة والرؤية الراشدة، بعيداً عن الانتقام للذات وتصفية الحسابات، وسور المدينة مهدد بالمغول الجدد ينتظرون ثلمة فى جداره لينفذوا ثم تكون الساحقة الماحقة!!.