وقف الصادق المهدي زعيم حزب الأمة قبل سنوات يخطب في منطقة نفوذه السياسي الجزيرة أبا وتفرَّس في الوجوه المحتشدة من فوق المنصة فلاحظ أن جل الحاضرين كانوا من الشيوخ أو فوق الخمسين عاماً، فسأل أحد مساعدية قائلاً «وين الشباب»؟ فالرجل بحنكته السياسية أدرك أن عزوف الشباب عن لقاءات كهذه يعني أن مستقبله السياسي بات مقلقاً وأن الزمن بكل تداعياته وإسقاطاته المتسارعة سيشكل خطراً على كسبه السياسي في حالة إحداث تغيير في نظام الحكم يسمح له بالمنافسة الحُرة أو على الأقل في ظل المنافسة الداخلية مع خصومه السياسيين في الحزب، وربما أعاد المهدي بعد هذا اللقاء شريط الذكريات وهو شاب ولج توًا عامه الثلاثين يخطو بطموح جامح نحو سدة رئاسة الوزراء حيث مر بفترات محمومة من التنافس والصراع السياسي تبلور بكسب في بعض المرات وإقصاء من الحكم تارة بواسطة الائتلافات والتكتلات الحزبية أو بفعل الانقلابات العسكرية، ولم يكن طموح المهدي قاصراً على رئاسة الحكومة وإنما كان يتطلع إلى الجمع بينها وبين زعامة الأنصار وهو ما قاده إلى خلافات بين الإمام الراحل الهادي والإمام أحمد المهدي، تلك الطموحات الجامحة حين اصطدمت بجدار الحكم المايوي في العام «1969» ربما هي التي دفعته لقبول التفاوض مع الرئيس نميري لاحقاً والرضا بالمشاركة السياسية في التنظيم الأحادي للنظام المعروف بالاتحاد الاشتراكي عبر ما يُعرف بالمصالحة الوطنية في العام «1977»، ولم يجد المهدي صعوبة أو حرجاً في إقناع مؤيديه بهذه الشراكة الانقلابية فاجتمع بهم في النيل الأبيض وقال لهم مطمئناً إلى سلامة المسيرة الاقتصادية المستقبلية للنظام قائلاً: «هذا النظام يحتاج إلى ثلاثة مواسم زراعية مظبوطة»، ولعل التباين الإيدولوجي والفكري بينه وبين النظام المايوي يوحي إلى أي مدى شكلت البرجماتية والطموح بُعداً مهماً في مسيرة المهدي السياسية ثم التناقض المتمثل في الاتكاء على الكاريزما الطائفية لزعيم تخرج في جامعة أكسفورد وتشرَّب نسبياً بالثقافة الغربية يؤمن بأهمية تكريس الوعي السياسي والبُعد عن محاولة الاستلاب في التعاطي السياسي الشفّاف. مواقف متقلبة يرى كثير من المراقبين أن الأداء السياسي للصادق المهدي اتسم بالتناقض في المواقف السياسية، فمن الصعب جداً الأطمئنان لرأي واحد والتعامل معه على أساسه، فحتى علاقاته في هذا العهد مع المؤتمر الوطني شابها كثير من الاضطراب السياسي في المواقف، فمن الصعب تحديد مسار شراع مراكبه مع النظام، فحين كان يدعو للانتفاضة والتغيير السلمي للنظام ولج ابنه الأكبر سدة القصر مساعدًا للرئيس، وحين كان يتحدث عن القبضة السلطوية للنظام ولج ابنه الأصغر جهاز أمن النظام. ملك الطرائف السياسية المعروف أن للصادق المهدي طرائف سياسية عديدة وكثيراً ما يستعين بالتراث المحلي في استخدام الأمثال والنقد الساخر، وكثيراً ما تُبرزها الصحف في صدر صفحتها الأولى بالنظر إلى طرافتها وعمق استدلالها ولأن جلها يأتي في باب المبارزة السياسية مع خصمه المؤتمر الوطني، ولعلَّ أشهرها عبارة له: «أكلوا توركم وأدوا زولكم» التي قالها إبان الانتخابات التشريعية القومية الأخيرة حيث حثَّ مؤيديه أن يُدلوا بأصواتهم لحزبه بعد أن يأخذوا مكرمة المؤتمر الوطني التي يحاول أن يكسب بها الناخبين، ذلك لأنه يدرك أن التنافس المادي بينه وبين الوطني غير متكافئ فأراد أن يقول بعبارة أخرى «شيلوا منهم العايزنوا لكن ما تنسونا»، وفي إحدى مساجلاته الساخنة مع خصمه اللدود المؤتمر الوطني عبر حوار مع صحيفة «الأحداث» المتوقفة عن الصدور بدا المهدي غاضباً في أعقاب صدور مذكرة ناقدة من بعض رموز حزبه متهماً المؤتمر الوطني بأنه يقف وراءها واتهمه بأنه ينقِّب في الجبّانات ويستنهض بعض القبور قائلاً: «المؤتمر الوطني يمشي مقابر حزب الأمة للتحدث مع الموتى عن حال الحزب هم موتى سياسياً وقاعدين في بيوتهم ولا شغالين لا نشطين لا متحركين وكلامهم كلام بعاعيت»، وحين سُئل ذات يوم عن مشاركة حزبه في الحكومة قال: «نحن ما بنمشطها بقمله».. وقال في مقام آخر إن «سرج الوطني مليء بالدبايب». ترتيب في الأفكار وعُرف المهدي منذ الفترة الحزبية بأنه كثير التصريحات والمشاركة الخطابية حتى إن صحيفة محسوبة على الجبهة الإسلامية آنذاك أسمته ساخرة «أبو كلام»، لكن من الصعب أن ينفي أحد أن المهدي غير مرتب في أفكاره وأنه متهم بالسفسطة، فهو ينتقي عباراته بدقة، لكن لعل المآخذ المستحقة كانت في آرائه الدينية مثل أن الحجاب ليس فرضاً وجواز اصطفاف النساء مع الرجال في الصلاة وهي آراء ربما تقاربت كثيراً مع آراء د. الترابي، ولعلها أتت في إطار التنافس المحموم بين الطرفين، لكن للرجل إساهاماته الفكرية المقدَّرة فله مؤلفات عديدة. الطموح الأخير بالرغم من قدرة الإنقاذ على الإمساك بسدة النظام وإضعاف كل خصومها السياسيين رغم ما تعرضت له من محاولات الانقضاض العسكرية المختلفة لكن المهدي يبدو أنه لم ييأس وأن طريق الحكم لن يكون مستحيلاً وإن بدا مليئًا بالأشواك والمطبّات وربما الألغام، ومن يدري ربما جهز منذ الآن خطبته المرتبة والمسبوكة جيداً.