هل تصدقون أن المدعو عنترة بن شداد العبسي خرج على البرية كلها شاكياً وباكياً أن الشعراء الذين قبله أتوا على المعاني والمباني ولم يتركوا شيئاً من معنى أو مبنى يرقعه ويصلحه ليطلع به على الناس وينضم إلى ركب شعراء العربية؟! هل تصدقون أنه يشكو من قلة المعاني غير المطروقة التي لم يتناولها الشعراء قبله؟! والمتردم هو المرقع من الثياب واستعاره هنا للمعاني والعبارات.. ومع كل ذلك فإن هذا البيت كان مطلع قصيدته التي أصبحت إحدى المعلقات العشر بل إحدى المعلقات السبع لما ورد فيها من جيد الأفكار والقرائح والمعاني التي لم يُسبق إليها الشاعر.. ومن ذلك قوله: فشككت بالرمح الأصم ثيابه ليس الكريم على القنا بمحرم يقول طعنته في قلبه.. وجاء القرآن بعد مدة مصدقاً بلاغة الشاعر فنزل قوله تعالى «وثيابك فطهر» قال المفسرون هي طهارة القلب والباطن. وقالوا في ذلك أي طهّرها من المعاصي وقال ابن عباس عن هذه الآية لا تلبسها على معصية ولا على غدرة.. قلت ومحل ذلك كله القلب. قال عيلان بن مسلمة الثقفي فإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع وقال الشاعر إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل نقول كل ذلك ونسهب فيه ونطيل الشرح وكأننا نتمسك بشىء من الباطل.. أو نمني أنفسنا بشيء منه.. والباطل هنا أن تسول لنا أنفسنا أن الحال التي نحن فيها تشبه حال عنترة نوعًا ما.. وأن قناعته أنه لم يُبقِ له السابقون شيئاً من طريف المعاني تماثل وتشابه يقيننا بأننا لم نترك للإنقاذ أسلوباً للنصيحة ولا منهجًا للنذارة والبشارة إلا وطرقناه حتى لم يبقَ لنا شيءٌ نتوجه به للإنقاذ.. أوليس من الباطل أن نرجو أن ترى الإنقاذ في نصائحنا التي مضى عليها ما لا يقل عن عشرة أعوام وفي وعظنا وتذكيرنا ما رآه حماد عجرد الراوية في هذه المعلقات وبالذات معلقة عنترة من جيد المعاني والمباني ما يجعل الإنقاذ تعلق عموداً مثل «أصل المسألة» أو «شهادتي لله» أو «زفرات حرى» على أستار المؤتمر الوطني أو قلوب قيادات المؤتمر وقيادات الإنقاذ.. ثم تسعى لتبني الدولة على ذلك المنوال والمنهاج. إن الذي يبدو لنا أن الإنقاذ لا تحفل كثيراً بما يُكتب ولعلها لا تقرأه أصلاً.. ولكنها عندما تستشعر الخطر وذلك في ظروف مثل ظروف اليرموك ترسل من يحصي على الإعلام الحُر أنفاسه ويقيد خطوه ويخرس لسانه فإذا انقشع الضباب والسحاب وَصَفَت سماء الإنقاذ عادت لسابق عهدها من التجاهل والتبلُّه. إن معلقة عنترة لم تكن آخر قصائده.. لأن الدنيا استقبلتها واحتفت بها وعلقتها في القلوب أو على أستار الكعبة. ولا أظن أحداً يثرِّب علينا بعد الآن إذا عقد كل كاتب وناصح وبشير العزم على أن يكون هذاآخر العهد بكتابته ومناصحته ومسودته. فإذا فعلنا خشينا أن يسألنا سائل: لماذا فعلتم؟ فنجيبه بمثل ما أجاب الشاعر لما ترك الشعر ولم يعد ينظمه فسئل عن ذلك فأجاب: قالوا تركت الشعر قلت ضرورة باب الحوائج والدواعي مغلقُ خلت الديار فلا كريم يُرتجى منه النوال ولا مليح يُعشقُ حقًا وصدقًا لقد أغلقت الإنقاذ أبواب الحوائج وأبواب الدواعي.. أما خلو الديار من كريم يُرتجى منه النوال فهو مثل خلو الإنقاذ من مسؤول يقبل النصيحة أو يلتفت إلى المناصح فكل من زل أو أخطأ أو «عك» تمادى وصعّر خده واعتبر خطأه هذا «صواباً جديداً» وإذا وصل إليه نقد أو توجيه أو استدراك مهما تلطفنا في المنهج وفي البلاغ نجد أن المسؤول المعني انتفخت أوداجه ولبس لأمة حربه وبرز في العدة والعدد واعتبر المناصح أو الناقد الموجه عدوًا لدوداً وخصماً عنيداً حتى لو كان هذا الشخص في يوم من الأيام صديق صباه أو زميل دراسته أو ابن قريته. ولا نوال يطمع فيه المناصر والمناصح والبشير والنذير أعظم من قبول مناصرته ومناصحته والفرح ببشارته وتوخي الحذر من نذارته. ومثلما خلت الإنقاذ من كريمٍ يُرتجى منه النوال على ما أسلفنا فلقد خلت أيضاً من مليح يُعشق والملاحة المقصودة هنا ليست ملاحة في القد ولا صباحة في الخد، الملاحة هنا هي ملاحة القلب والذكي الذي لا يتحرك فقط بالتوبيخ والتأنيب والتبكيت.. ولكن تحرِّكه نباهة وبداهة يؤديان إلى استباق الإشادة والبشارة قبل استباق الإغارة والنذارة. إن الملاحة هنا هي ألّا تلجئ رعيتك إلى مناصحتك أو مجابهتك أو مواجهتك لا بالقول ولا بالفعل.. تغيّب أوس بن حارثة بن لأم عن مجلس النعمان بن المنذر الذي وعد فيه أن يُخرج جائزة لسيد من سادات العرب لم يسمِّه.. ولما نظر النعمان ولم يجد أوس بن حارثة تبسم وأرسل إليه رسولاً يطمئنه أن الذي تخشاه لن يكون.. لقد خشي أوس بن حارثة أن تهدى الجائزة لغيره في حضوره فآثر الغياب، وقال إن تكن لي فسوف يُرسَل في طلبي وإن لم تكن لي فلأنني لم أشهدها.. وكانت الجائزة من نصيبه. إن لنا دعاة ونصحاء مثل أوس بن حارثة بل أشد وأقوى.. يقلون عند الطمح.. ويكثرون عند الفزع.. ولكن أزرى بهم أن ليس لديهم ولاة وحكام مثل النعمان بن المنذر يُنزلون الناس منازلهم.. ويغني التلميح عندهم عن التصريح.. وتغنى عندهم الإشارة عن العبارة.. أما نحن فإن عبارتنا أسفار وخزانات كتب.. وأقوالنا صياح وزعيق .. ولكن حكامنا لا يقرأون ولا يسمعون، وتتهاوى العروش حولهم ولا يرعوون.. أتدرون ما الذي أودى بحياة النعمان بن المنذر؟ أودى بها الأنفة العربية والعزة المضرية فقد أبى أن يزوج كسرى بفتاة عربية وإن كان ملكًا وسلطاناً وآمرًا وناهياً، ورغم أن النعمان بن المنذر كان بعد تابعًا له مثلما كان القساسنة تبعًا لهراقلة الشام.. ولما طلبه كسرى هرب إلى الجزيرة العربية.. ولكنه آثر الموت على أن يظل طريداً وشريداً وسوقة بعد أن كان ملكًا فأسلم نفسه لكسرى..