نقل الاداري محمد خليل بتيك في عام 1957م وعين مديراً لمديرية الخرطوم خلفاً للسيد احمد مكي عبده واستمر في موقعه هذا حتى استقال واحيل للتقاعد الاجباري قبل بلوغه سن المعاش لاختلافه مع نظام عبود واحتجاجه على الظلم الذي يعتقد انه حاق بالنوبيين في الهجرة والتعويضات الظالمة المجحفة غير المجزية وكان حزيناً على ضياع ارث حضاري عريق. وطيلة فترة عمله بالحكومة عُرف بتيك بالاستقامة والحزم والصرامة والشدة في الحق وكان يردد دائماً أمام رؤسائه ومرؤوسيه ليكن شعارنا المرفوع: «لا تكذب لا تسرق» وكان البعض يصفه بأنه اداري «صعب» وعند زيارة الرئيس جمال عبد الناصر للسودان في عام 1960م منح السيد محمد خليل بتيك مدير مديرية الخرطوم وسام الجدارة ونال بتيك أوسمة ووشاحات تقديرية عديدة بالداخل والخارج وكان بتيك صديقاً حميماً للأمير بيرنهارد زوج الملكة جوليانا ملكة هولندا السابقة ووالد الملكة كريستينا ملكة هولندا الحالية. وقد التقى بتيك ببيرنهارد في انجلترا في عام 1948 م وحدثه عن حلفا القديمة والحضارة النوبية العريقة. وعندما كان بتيك مفتشاً لمركز حلفا زاره الأمير بيرنهارد وأعجب بحلفا وطبيعتها الساحرة الخلابة ووقف على الآثار الدالة على عراقة الحضارة النوبية واستهواه النيل وكان من هواياته صيد التماسيح ثم طفق يزور حلفا سنوياً وكان يصحبه بتيك حتى بعد نقله للخرطوم بإذن من السكرتير الإداري والحاكم العام وكان الأمير بيرنهارد يزور سنوياً تنجانيقا التي يمتلك فيها حديقة خاصة وكان بتيك يستقبله عند توقف طائرته الخاصة بمطار الخرطوم ويقيم له حفل غداء وهو في طريقه لتنجانيقا ثم يستقبله ويقيم له حفل غداء آخر عند أوبته ومروره بمطار الخرطوم وهو في طريقه لهولندا. وعندما زار بتيك هولندا تلبية للدعوة الشخصية التي وجهها له صديقه الأمير بيرنهارد استقبلته الأسرة المالكة استقبالاً طيباً واحتفت به وأكرمته وتقديراً له أهدته مفتاح مدينة امستردام من الذهب رمزاً للصداقة بينهم. ووقف الأمير بيرنهارد موقفاً كريماً مشرفاً يدل على نبله وخلقه الرفيع فعندما علم من سفير هولندا بالسودان ان صديقه بتيك مدير مديرية الخرطوم قد استقال أو أقيل من موقعه قبل خمسة ايام حضر الأمير فوراً بطائرته الخاصة وأخطر المسؤولين بالخرطوم بهذه الزيارة قبل وصوله. ومن المطار اتجه للفندق الكبير وقضى وقتاً قصيراً ومن هناك اتجه للقصر الجمهوري وعند مقابلته للرئيس عبود التمس منه أن يعيد بتيك للخدمة فرد عليه عبود بأن بتيك هو الذي احتد معهم وطلب منهم اقالته وأنهم لا يمانعون في اعادته للخدمة. واتجه الأمير لمنزل بتيك وفي معيته بعض الحرس السودانيين، وجرى العرف أن يبقى المسؤول بعد اعفائه عدة اشهر بمنزله الرسمي ولكنهم عندما وصلوا المنزل علموا أن بتيك اخلاه في نفس يوم اعفائه وأرسل أسرته لحلفاالجديدة وبحثوا عن حرسه القديم وعلموا منه انه يقيم بلكوندة شعبية عادية تعج بالنزلاء وتقع بالقرب من مستشفى الخرطوم. وفوجئ بتيك بزيارة الأمير الذي أخذه معه للفندق الكبير وأخبر بتيك الأمير انه لن يعمل مع هؤلاء وحضر اللواء حسن بشير نصر والاميرلاي المقبول الامين الحاج للفندق الكبير مبعوثين من الرئيس عبود لمقابلة الأمير واقناع بتيك والاتفاق معه على الرجوع للعمل ورد عليهم بتيك بأنه قد استخار الله سبحانه وتعالى وفي الخيرة إشارة واضحة لعدم العودة للعمل معهم مرة أخرى. وعندما أدرك الأمير استحالة اقناع صديقه بتيك بالعودة للعمل قال إذا أردت تنفيذ أي أعمال ومشروعات زراعية أو صناعية أو تجارية فإنني على أتم استعداد لأقدم لك الآن أي مبلغ تطلبه مهما كان ضخماً ولك أن تستثمر في السودان أو في هولندا فرد عليه بتيك قائلاً: إن هذه الزيارة الكريمة تدل على نبلك وسمو خلقك وإنني اعتبرها قلادة شرف ومصدر فخر واعتزاز ولكنني من ناحية مبدئية أرفض رفضاً قاطعاً سوء استخدام الصداقة والانحراف بها لتحقيق المآرب المادية وتكفيني وقفتك المعنوية معي وتحت الحاح الأمير قال له بتيك إذا كنت مصراً على المساعدات المادية فاطلب منك ان تقدم هذا المبلغ للحكومة لتكمل به بعض المشروعات التي بدأتها عندما كنت مديراً لمديرية الخرطوم. وعندما التقى الأمير بيرنهارد بالرئيس عبود قال له وهو يودعه في طريقه للمطار: لقد ارتفع بتيك في نظري آلاف المرات والتزم الأمير للرئيس عبود بتنفيذ كل المشروعات والمنشآت التي بدأها بتيك بولاية الخرطوم وبرّ الأمير بوعده ودفعت هولندا كل التكاليف. وعندما اتجه الأمير النبيل للمطار وهو في طريقه لامستردام عاد بتيك للكوندة الشعبية ليبدأ مشواراً جديداً في مسيرة حياته، واستبدل جزءًا من معاشه وفتح مكتباً تجارياً للاستيراد والتصدير بعمارة بوكشب وكان يدير العمل بمفرده ويعمل معه عامل واحد من ابناء الجنوب كان يعامله كابنه ومرت به حالات كان عليه ان يدفع تسهيلات قليلة لتنساب الأمور بسرعة وسهولة ويحصل على الكثير ولكنه كان يرفض ذلك من منطلق ديني واخلاقي وذات مرة حصل على تصديق لاستيراد كمية كبيرة من الاسمنت من مصر كانت ستدر عليه أموالاً طائلة في زمن وجيز لان الاسمنت كان نادراً في الأسواق وأسعاره غالية مرتفعة وكان المشترون من التجار ينتظرون بتيك بفارغ الصبر ليكمل الإجراءات ليشتروا منه وفي مرحلة الإجراءات النهائية بدأ بعض الموظفين يتباطأون ويلمحون بضرورة تقديم رشوة لهم وكأنها حق واخبرهم بتيك بصراحة أنه من ناحية مبدئية ودينية لن يقدم رشوة ولو كانت قرشاً واحداً ولا يرضى ان يكون راشياً أو مرتشياً ولا شعورياً امتدت يده للاوراق التي تحوي التصديق والاجراءات المصاحبة ومزقها خوفاً من أن تكون في العملية كلها ذرة من شبهة فساد وأعلن للموظفين المرتشين انه يمكن ان يتصدق عليهم بما يستطيعه من مال لوجه الله سبحانه وتعالى اذا كانوا محتاجين وفقد بتيك تلك الصفقة وغيرها من صفقات وضميره مرتاح وكان اصدقاؤه ومنهم الأستاذ يحيى محمد عبد القادر الصحفي يصفونه ب «ولي الله بتيك» وفكر بتيك في اغلاق مكتبه التجاري والعودة لحلفا ليعيش فيها حياة بسيطة هادئة ويعمل بالزراعة التي تكفل له حياة كريمة مستورة ويقضي وقته بين المنزل والمسجد. وقبل ان ينهي ايجار المكتب ويغلقه قرأ إعلاناً صادراً عن شركة انجرا في كرواتيا بشرق أوربا تعلن فيه حاجتها لوكيل للشركة بالسودان تكون له خبرة إدارية ويجيد اللغة الإنجليزية وطلبت من كل متقدم ان يوافيها بسيرته الذاتية ومسيرته العملية. وقدم بتيك طلباً للشركة وقبل فوراً واعتمد وكيلاً لشركة انجرا بالسودان وبعد شهر قرأ في جريدة الثورة الناطقة باسم نظام نوفمبر اعلاناً عن جلب معدات وماكينات وتركيب مصنع ربك للاسمنت وبعد التشاور مع رئاسة الشركة في كرواتيا تقدم الوكيل محمد خليل بتيك بعطاء لانشاء وتركيب المصنع وفاز هذا العطاء وأوفت الشركة بكل التزاماتها وقام الوكيل بتيك بكل المهام خير قيام وقام المصنع وشكرته رئاسة الشركة بكرواتيا ومنحته خمسة وعشرين الف جنيه سوداني وكانت مبلغاً ضخماً بمقاييس تلك الايام. وبنصيحة وطلب من استاذه وقريبه وابن منطقته السيد ابراهيم احمد الرمز الوطني المعروف اشترى بتيك منزلين كبيرين بالخرطوم كان بعض ورثة آل المهدي قد عرضوهما للبيع وكانت قيمة ايجار هذين المنزلين هى التي اعتمد عليها بتيك بمشيئة الله اعتماداً رئيسياً في بقية سنوات عمره حتى رحل للعالم الآخر في يوم الجمعة الموافق 16/7/1984م واشترى بتيك مما تبقى له من ذاك المبلغ الكبير أسهماً في شركة الصمغ العربي واشترى اسهماً في مصنع النسيج الامريكي وقام بشراء ثلاثمائة سهم بقيمة ثلاثمائة جنيه في شركة التأمينات العامة التي اسهم في تأسيسها ضمن عدد من اصدقائه وعلى رأسهم السيد محجوب محمد احمد شقيق الاستاذ جمال محمد احمد. لقد رفض السيد محمد خليل بتيك عندما عمل بالتجارة أى مال فيه شبهة حرام وقرر ان يغلق مكتبه التجاري ففتح الله عليه ابواب الرزق الحلال واسعة.