نستهل هذه المرة بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم: «إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، قيل وما هي يا رسول الله قال: إذا كان المغنم دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وأطاع الرجل زوجته، وعقَّ أمه، وبرَّ صديقه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكرم الرجل مخافة شره، وشُرب الخمر، ولبس الحرير واتخذت القينات، والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء، أو خسفاً أو مسخاً» أخرجه الترمذي. و بالتدبر في الحديث بقدر من العمق والقليل من التفكر لمشهد الحياة في هذا العالم الفسيح، فإن ذلك يدل دلالة لا يرقى إليها أدنى شك بأن معظم النَّاس قد طفقوا يلهثون وراء المغانم، ولا يضعون اهتماماً بالعلاقات والصلات، إلا إذا كانت نتيجتها مكاسب مادية، ومصالح ذاتية، فإذا انتفت هذه الأهداف يظل الاتصال بين النَّاس مقصوراً على من أحبك بدافع الحب، ووصلك من منطلق القرابة، وعلاقة الأرحام، وهؤلاء قليل ما هم في هذا الزمان البئيس، أما الزكاة والإسراع بإخراجها من المال، دون سلطة تأمر، أو تهديدات توجه، فهي بالمثل لم تعد شعيرة يتسابق إليها أصحاب الأموال من تلقاء أنفسهم، ولو كانت كذلك لما جاع جائع، ولما امتلأت الطرقات بالمتسولين والشحاذين، ومن ضربتهم الفاقة، وإلا فلننظر إلى تلك الأبراج العالية، والسيارات التي تفيض بها شوارع المدينة، ولنتصور بأن أصحابها من كل هؤلاء قد أخرجوا ما عليهم من زكاة، فهل ترى بعد ذلك من يشتكي من صراخ أطفاله جوعاً، أو من تعوزه قدرة مالية لشراء دواء لمن داهمته علة، أو أصابه مرض، والواقع بأن إخراج الزكاة أصبح غُرماً، وما نراه من غنم وثراء فاحش لا يقابله إلا لأننا أمسكنا عن دفع الزكاة، واعتبار المطالبة بها كأنها إتاوة من الإتاوات والعياذ بالله. أما الأمانة، فقد ضاع الذين يؤتمنون بها فلا أمانة في القول، ولا في الفعل، ولا في حفظ الأموال، وكم من أناس ائتمنوا على أموالهم وأعراضهم أشخاصاً ومؤسسات فنهب المال، وهتك العرض، وكان الأسف الشديد بأن الذي يحدث بسبب القريب المتجهم أو الذي كان على قمة فريق الحراسة، أو من يفترض فيه الاتصاف بصفة الحماية، فأصبح حاميها هو حراميها، فحلت الخيانة محل الأمانة، وذبحت المروءة، وشغل محلها افتراس الناس لبعضهم، دون مراعاة لحبل إخوة أو صلة قرابة. ورحم الله الشاعر إذ قال: مررت على المروءة وهي تبكي٭ فقلت علام تنتحب الفتاة فقالت كيف لا أبكي وأهلي ٭ جميعاً دون خلق الله ماتوا أما أغلب النساء في هذا الزمان، برغم المطالبات الكثيرة بحقوق المرأة، والادعاء بأنها ضاعت وسلبت، لكن الحقيقة والأمر الواقع يقولان بأنَّ الرجل لم يعد هو صاحب الكلمة، ولا المتصرف في المال، ولا هو الذي يتمتع بالقوامة، وكم من رجال ذاقوا الأمرين من نسائهم ملاحقة وضغطاً حتى وصل بهم الحال إلى الفرار بجلودهم، والتخفي بمغادرة المنزل بفعل المضايقة، خاصة عندما تشرق الشمس في الصباح. وبالمقابل فإن رجالاً لا يحصون ولا يعدون قد وضعوا زوجاتهم في المقدمة، فبينما تنال الزوجة والأبناء التسهيلات والخدمات، تبقى الأم تعاني في ركن من أركان المنزل، أو في غرفة خالية من الديكور والجماليات وتكون الزوجة هي التي تتمتع بالهواء المكيف والفرش الوثير. وكثيرون يقضون جل وقتهم مع من يسمونهم الأصدقاء، بينما يكون الأب قد جلس وحيداً بكرسي مهترئ أمام المنزل بلا أنيس أو جليس، فتصبح الصداقة لمن تخلع عليهم صفة الصداقة، ويجرد الأب منها، وهكذا يبر الأبناء بأصدقائهم، ويحدث الجفاء مع آبائهم. و في المساجد، حدث الهرج والمرج بين أناس يحاولون تأطير العبادة ومعظم الشعائر التعبدية، وفق آرائهم ووجهات نظرهم الفقهية، وبين آخرين لم يكن المسجد بالنسبة إليهم إلا داراً للسماحة والذكر والاجتهاد بقدر الوسع في إعمار الصلة بالله، وما من مسجد إلا واقتحم أبوابه المتشددون والمتنطعون فكانوا سبباً في ارتفاع الأصوات وكثرة الجدل والمماحكات. والزعماء في هذا الزمان، لا يتزعمون القوم، لشيم رفيعة يتصفون بها، ولا لقيم أصيلة يدعون إليها فتحولت الزعامة من موقعها الاجتماعي إلى موقع آخر عماده المال و أساسه السلطة، ويا للأسف عندما يملك المال بخيل وتؤول السلطة إلى من يستبد بها، وعندها يجلس الأراذل على هذا الكرسي الذي يطلق عليه كذباً وزوراً بأنه الكرسي الذي يجلس عليه الزعماء. وما أكثر الذين أكرموا بالمال، ووهبوا ما لا يستحقونه، تجنباً لشرورهم، واتقاء لمكرهم، وتلك ظاهرة لا تخفى على العيان. أما شرب الخمر ولبس الحرير وشيوع المعازف واشتهار المغنيين، والراقصين، فتلك ظواهر لا تحتاج إلى بيان، ودونكم ما يحدث في الصالات المغلقة، والأندية التي تقام في ساحاتها مناسبات الزواج، أو ما يسمونه بحفلات الاستقبال ببعض السفارات. ولم يتبق من أشكال البلاء التي حلت إلا السطر الأخير وهو أن نترقب الريح الحمراء والخسف والمسخ بعد أن لعنت هذه الأمة بممارساتها أولها وهم الذين كانوا في منجى من مثل هذا البلاء الذي نعيش عصره وكان سببه ما نمارسه من ممارسات. و نسأل الله السلامة والعافية.