الشيخ «فرح ود تكتوك» واحد من الشخصيات العلمية السودانية التي اختلطت فيها الأسطورة بالواقع في التراث الشفهي الشعبي.. وهذا أمر مرده إلى ضعف النقل للثقافة الوطنية عبر الأجيال.. للطبيعة الصوفية التي انطبعت بها الذهنية الشعبية، حيث تميل إلى حفظ قصص الكرامات والخوارق أكثر من تسجيل الأحداث. هو الشيخ فرح بن محمد بن عيسى بن قدور بن عبدل بن عبد الله بن محمد الأبطح وهو الذي تُنسب إليه قبيلة البطاحين. أما اللقب «تكتوك» ففيه عدة روايات.. الأولى تقول إنه لقبٌ لأبيه لحق به.. أما الروايتان الأخريان فتلصقان اللقب به شخصيًا.. فتقول إحداهما، «إن أحد أشياخه دعا عليه لفعلٍ ما صدر عنه وهو صبي فسقط مغشيًا عليه، وصار صدره «يتكتك» أي يُصدر صوتًا. أما الرواية الأخرى فتقول إن سبب اللقب جاء من أن صدره كان يسمع «تكتيكًا» من كثرة قراءة القرآن. أما تاريخ ميلاد الشيخ فرح فهو أيضًا محل خلاف فبينما يذهب نعوم شقير في جغرافية وتاريخ السودان إلى أن ذلك كان في حوالى عام 1100ه.. يذهب الأستاذ الطيب محمد الطيب إلى ترجيح القول بأنه مولود في منتصف القرن الحادي عشر الهجري وأنه لم يعاصر بداية تأسيس «دولة سنار» أو «السلطنة الزرقاء» أو «دولة الفونج» بل كانت حياته بعد ما يقارب القرن من قيامها، أي في الثلث الثاني من عمرها.. في عهد الملك بادي أبو دقن. والشيخ فرح ود تكتوك فقيه درس على يد عدد من أشهر فقهاء زمانه، منهم الشيخ «أرباب العقائد»، و«الخطيب عمار بن عبد الحفيظ»، و«الخطيب عبد اللطيف بن الخطيب عمار».. وتنقل في بداية حياته في طلب العلم من مكان إلى آخر حتى استقر به المقام في قرية «الحجيرات» قريبًا من سنار.. واجتمع حوله تلاميذ ومريدون شكل بهم مدرسة اجتماعية قوامها العمل والكدح، على خلاف ما كانت عليه عادة المتصوفة والمشايخ في زمانة من التبطل والانقطاع. تميز الشيخ فرح بمدرسة فقهية واجتماعية مناهضة للانحرافات التي كانت واقعة في عصره بكل أشكالها.. أول ذلك تأكيد هذه المدرسة على قيمة العمل والكسب ومناهضة التبطل والذي كان يمارسه من يسمون ب«الفقراء».. فكان يحرص على أن يعمل ويعمل تلاميذه وأتباعه.. كما عبر عن رفضه للإرستقراطية التي يمارسها الفقهاء، والمشايخ في عصره وحرصهم على كنز الأموال وجمع الحشم والخدم وحيازة الأراضي الزراعية، وذلك عندما قام بتوزيع الأراضي التي منحها له السلطان على أتباعه وتلاميذه مقابل زراعتها وفلاحتها. واجه الشيخ فرح الانحرافات العقائدية التي كانت سائدة في زمانه فدخل في مناظرات عديدة منها مناظرته مع الشيخ «عبد القادر ود هجو» والشيخ «محمد ود عبد الحي».. كما واجه الفرق الضالة التي حرفت الدين باسم الفقه مثل جماعة «الزبالعة» وزعيمهم «كرين ود عبد الله» ونظم فيهم قوله: يا أبَّان طريقةً مضللة يا أبان عملاً ما هو لي الله وقت العنقريب فوقكم انبله ما بينفعكم كرين ود عبد الله وتعني: يا أصحاب الطريقة المضللة، يا أصحاب الأعمال التي ليس هي لله، عندما يحين أجلكم لن ينفعكم كرين بن عبد الله. أما الانحرافات السلوكية فقد وقف بوجهها بشدة وسخرية لاذعة أحيانًا.. ويذكر هنا أن أحد ملوك جبال تقلي بجنوب كردفان «جبال النوبة» ويدعى الملك «تيرا» قد أرسل إلية يطلب منه أن يبيح له الزواج بابنته!.. فرد عليه الشيخ فرح بأرجوزة وصفه فيها بالبلاهة وشبهه بالبغال والحمير... قول للملك تيرا زوجنالك بنتك الكبيرة بي سنة البغال والحميرا واسلوب السجع واحد من الأساليب التي استخدمها الشيخ فرح ببراعة وطوع فيها العامية التي كانت سائدة بسبب ارتفاع نسبة الأمية وضعف اللغة العربية في مجتمع سنار لقربها من أفهام الناس.. فهو يهاجم انكباب الفقهاء والمعلمين «الفقرا» على مباهج الدنيا ومغانمها: دُب الفقير إما اتقى وأقبل على دار البقا دُب الفقير إن طلق الدرب وشال «عصاتو» ودخل الحرب وتعني: ما أقبح الفقيه الذي لم يتق الله، ولم يُقبل على دار البقاء، ما أقبح الفقيه الذي ترك درب المصطفى، وحمل عصاه وخاض الحروب للدنيا. ويهاجم المنكرات السلوكية مثل شرب الخمور وغيرها من خلال وصفه لأنواع الرجال: الرجال فيهم بحور وفيهم رخم فيهم صقور وفيهم ردي ولد تكور ضيع عمره في شرب الخمور كما استخدم اسلوب التمثيل «الدراما» لتوصيل المعاني، ولعل من أشهر القصص المأثورة عنه: أن ابنته عادت إليه مغاضبة لزوجها وعازمة عليه أن يطلقها منه.. فعمد الشيخ إلى إبريق وضوئه فكسره، وجلس يبكي فجاءت ابنته ووجدته وهو يبكي على إبريقه المكسور.. فاستخفت ببكائه على إبريق.. عندئذٍ قال لها إن الإبريق كان رفيقًا رأى عورتي وسترني أزمان فكيف لا أقدره وأبكيه... في إشارة منه إلى زوجها.. فارعوت البنت وثابت إلى رشدها. ورغم إكثار الشيخ فرح من استعمال العامية السودانية إلا أنه فصيح اللسان نظم الشعر بالفصحى الرصينة موجهًا خطابه إلى من يفهم معناها مثل الفقهاء والمعلمين.. وفي هذا السياق تأتي قصيدته النونية التي يشجب فيها اندفاع الفقهاء إلى خطب ود السلاطين والأمراء، والتي قال فيها: يا واقفًا عند أبواب السلاطين ارفق بنفسك من همٍ وتحزين تأتي بنفسك في ذلٍ ومسكنة وكسر نفس وتخفيض وتهوين من يطلب الخلق في إنجاز مصلحة أو دفع ضر فهذا في المجانين وكم يحاكي لمسجون يدوم له وكم من السجن في أيدي المساجين إن كنت تطلب عزاً لافناء له فلا تقف عند أبواب السلاطين ألا الزم العلم والتقوى وما نتجت من الثمار تفز بالخرَّد العين خلِّ الملوك بدنياهم وما جمعوا وقم بدينك من فرض ومسنون استغن بالله عن دنيا الملوك كما استغنى الملوك بدنياهم عن الدين يرجح الأستاذ الطيب محمد الطيب أن وفاة الشيخ فرح كانت يوم الأحد العشرين من ربيع الثاني سنة 1147ه.. وكان قد أصيب بالحُمى التي لازمته خمسة أيام.. توفي عن مائة وبضع سنين، وتم دفنه ظهر يوم الاثنين «بمشرع» مرسى الحجيرات. ويقع الآن قرب خزان سنار.