الأستاذ أحمد سليمان المحامي رجل عُرف بالوضوح في الرأي والرؤى كوضوح الشمس في رابعة النهار، لمست ذلك عن كثب حين استدعاني وقد كنا في بداية الطريق بألوان الأستاذ أحمد عثمان مكي، حيث أخذني من ألوان عنوة وبلا مقدِّمات إلى صحيفة الراية، الشهيد محمد طه محمد أحمد والدكتور محمد وقيع الله، وهناك كنتُ محظوظاً، فقد عرفت الأستاذ أحمد سليمان فعرفت كفاح جيل في دروب الحياة، فكنت من الجيل الذي عرفه بعد طلاقه البائن للحزب الشيوعي السوداني، فكنا بين مشيناها خطى وبابه على مسؤوليتي ننعم بقراءة تجارب الرجل، ولي معه يومياً بمكتبة الراية فنجان قهوة وكوب شاي وأنس رفيع في أحساب وأنساب وآداب وفنون أهل السودان. فهو وبتكوينه الأُسري قد أطال وأكثر من قراءة السودان بكل مكوِّناته وكياناته فلم تصرفه مرحلة الشيوعية عن قراءة السودان من الداخل فكان عاشقاً متبتلاً في محاريب المكارم التي كأنها أهل السودان ولا سيما أعلام الأصالة من أهل القرآن والإحسان والأدب الراقي بكل ضروبه مما عرفناه عنه من أهلنا بود نوباوي في قلب الأنصار تقديرهم لشجاعته النادرة كما حدَّثني بذلك الأنصاري المحتسب. رأس الأمية جده الأمير الشهيد محمد ود التويم الشيخ المهدي الحسن الفكي أحمد الفكي حمد ود التوم وهو سادن جامع الإمام عبد الرحمن بود نوباوي بأم درمان. حين قال لي أحمد سليمان ده رجل لا يعرف الخوف إلى قلبه طريقاً حيث كان يعقد ندوات للحزب الشيوعي في الفسحة الواقعة أمام جامع ود نوباوي ولا يُبالي بمن يدخل به الجنة من الأنصار!! وعلى شيوعيته تلك كان الإمام عبد الرحمن يحترمه، وحين اعتُقل في انقلاب (17 نوفمبر) وتم اعتقاله قبل الساسة الكبار استدعى السيد عبد الرحمن مجموعة من الأنصار في غسق الدُّجى وصل بها أسرة الأستاذ أحمد سليمان وقد تطابق قول أحمد سليمان مع مهدي الحسن حين قال لي الأستاذ أحمد في مكتبة الراية: من عجب أني كنت قد ذهبت للإمام عبد الرحمن وهو رجل عظيم لأشكره على إسداء معروف للأسرة، فقال الإمام عبد الرحمن: يا أحمد أنت ما ولدي تشكرني على ماذا؟! فردَّ أحمد سليمان بقوله أنا ولدك وجدي خازن بيت المال بالمهدية ولكني «انسختُّ» وبقيت شيوعي؟ فقال الإمام لا مثلك مهما طال الزمن سيعود؟! وكان حفياً بتلك الفراسة الإيمانية الباهرة.. وقال عنه أستاذنا فراج الطيب: أحمد سليمان حتى حين كان شيوعياً كان أصيلاً وود بلد في تعامله (وخيركم في الجاهلية خيركم في الإسلام) وذات مرة حكيتُ له قصة الشيخ محمد سعيد العباسي مع صديقه وزير الدفاع الأول لاحقاً السيد خلف الله حاج خالد العمرابي ومصدري في القصة الشاعر الكبير أحمد حسين العمرابي: وهي أن المأمور خلف الله كان قد استجاب لطلب بتلغراف من صديقه العباسي في مبلغ كبير وصله في ذات اليوم وحين ذهب العباسي لخلف الله بالنهود وأراد تسديد المبلغ قال له خلف الله أنت لم تقل لي أقرضني مبلغاً بل قلت في البرقية: حَوِّل كذا؟! ولو قلت ديناً لما أرسلتها لك لأنك أخي وجعلت الحالة واحدة بعبارة حوّل كذا!! هنا وَهَب العباسي أرضًا زراعية لخلف الله وأرسلها بالبريد المسجل.. وطلب إليَّ أحمد سليمان أن أكتب تفاصيل هذه القصة وحين ذهبت للعمرابي لأخذ الإذن منه لنشرها.. قال العمرابي وبالحرف: (صدور الرجال صناديق يا ولدي)!! ولكن إذا طلب أحمد سليمان ذلك منك أمشي أنشرها على لساني، وقال العمرابي وبالحرف أحمد سليمان ده ود الناس السمحين ناس أرباب العقائد وود الأرباب؟! كان أحمد سليمان كريماً إلى درجة الأبلج، فلقد شهد له الفنان الباحث عبد القادر الكتيابي وهو صاحب مقهى أن أحمد سليمان بمكتبه في قلب السوق الأفرنجي كان أكثر من يحاسبه في اليوم بالشاي والقهوة على وجود كبار التجار وقد حفَّزني وشجَّعني حين كتبت بالراية استراحة عن الفلكي الشعبي الشاطر ود العوض ومعرفته بالمنازل ومواسم الزراعة والخبرة التراكمية في محيط أهل السواقي والضفاف، فأرسل له معي تحياته وظل يسأل عنه، كان أحمد سليمان قارئاً من الدرجة الأولى وكان يميل إلى الكتابة أكثر من الحديث، فلقد رأى ذات مرّة بين يدّي كتاباً من القطع الصغير هو (الوصية) للشيخ الجليل عبد المحمود الحفيان كان قد أهدانيه ابنه الخليفة الجامعي شيخنا الشيخ الجليل عبد المحمود، فأخذه مني أحمد سليمان الذي قرأه بين يوم وليلة وبصّرني أكثر بحقيقة سحر البيان لدى الشيخ الحفيان، وقال بالحرف وبلسان العارفين: والله إن لغة هذا الكتاب (الوصية) ما معناه هو من تلقيات الأذواق على ما به من رسوخ في علوم الأوراق، فقال عليه الرحمة: هذه اللغة قد لا تجدها بروحها هذه عند د. عبد الله الطيب أو فراج الطيب! فقال لي ذات مرّة إنه وبعد أن هداه الله قد جمع كل من جّندَهم للحزب الشيوعي، وقال لهم أبرأ إلى الله مما أضللتكم به وعلى كل واحد منكم أن يبرأ إلى الله لكل من أضله. وقال لي ذات مرة: إننا في الحزب الشيوعي قد ألحقنا أضراراً بالغة بالوطن ومن ذلك وقوفنا ضد المعونة الأمريكية، حيث كان نتاج ذلك توقف طريق المعونة في الجيلي، وكان من الممكن أن يصل إلى شندي عطبرة هيا بورتسودان منذ عام (1958م)!! وجزم بأن عضوية حزبهم لم تكن في تلك الأيام تتجاوز عدة آلاف وهي لديه أشبه بكركبة في برميل فارغ على حد قوله، ولكن الأحزاب التقليدية كما وصفها هي أحزاب مترهلة وما فيها فائدة، حسب تعبيره!! والله على ما أقول شهيد وما كنت في ذلك إلا الرَّاوية. يرحم الله ود الناس السمحين والذي أنس إلى أحوال الركع السجود وذاق في رأد الضُّحى طعم صلاة الأوابين أحمد سليمان المحامي شاهد عصره الأمين.