خرج من البحر مستحمًا بملحه، وافترش أديم الأرض مستظلاً بشمس المعرفة، متربصًا للأمل، ناصبًا شراكه لحلم سيأتي ولو بعد دهر، استنبط ماء الحياة من قعر الحكايا، ومزجه بالودق الهاطل رخا من ديمة المستقبل، تارة يحمل الوجع فوق مناكبه، وطورًا ما يمتطيه ويرخي أعنّته ليسهج في مفازات الدروب الوعرة، زاده حنطة جناها من بيدر العمر ونثرها في بطن زوبعة من أسئلة جدلية المنحى فلسفية المعنى، لتثمر حقولاً من الوعود الصابرة. سعد الله ونوس الجذوة المسروقة من مجرة الفكر، اسم يطل علينا كلما تذكرنا الأمل، وبحثنا في كنه الوجود عن سر الحياة، أليس هو القائل «إننا لمحكومون بالأمل» تلك العبارة التي صاغها من عجينة الأيام وخبزها في تنور حلمه، وتركها تجدد نفسها كريح الصبا، ترش طلها على جبين العشب ليخضل كلما هبط المساء على الظهيرة. محكومون بالأمل عبارة صاغها المبدع الراحل وتركها ترقص بيننا، كأنها فلسفة الحياة. تأتي علينا ذكرى رحيل الراحل سعد الله ونوس، ونحن نعيش حالة من القنوط والفوضى الفكرية والعقلية في زمن اختلطت فيه المعايير و صار الجو ضبابيًا، إلى درجة انعدام الرؤيا. لماذا يرحل المبدعون سريعًا؟؟ سؤال يحتاج إلى تفسير غيبي وخاصة عندما يكون هذا الرحيل لقامات صنعت مجدها من عشقها للحياة واعتناقها للإنسان أعز ثروة وأرفع قيمة فوق البسيطة،... يحتاج الجواب إلى البحث في كنه الحياة ما بين الولادة والموت. في عام 1941وهناك في قرية وادعة من ريف طرطوس تدعى «حصين البحر» استولدت الحياة مشروعًا مسرحيًا فكريًا عربيًا كبيرًا اسمه «سعد الله ونوس» استطاع أن يستحوذ عبر تجربة ناهلة بالعطاء على الساحة الفكرية للمسرح العربي إلى درجة أن يطلق عليه البعض لقب «بريخت العرب» والتي استمرت حتى الخامس عشر من مايو 1996م. لم يكن سعد الله مجرد إنسان عادي في تفسيره للأشياء والكتابة عنها، كان من المتميزين بما يملك من قدرة على استخدامه للمخزون الموروث، مثلما يملك الإمكانية لقراءة المستقبل بعين استشرافية دقيقة الرؤية،... حيث أضحت الحرية همه الأول ووجعه الدائم، مثلما أصبح الحوار أكبر سلاح يؤمن به ويحاول أن يمدنا به، ولعله كان أفضل من استخدم هذا السلاح وهو صاحب مقولة «الجوع إلى الحوار». إن الإنسان في رحلته ما بين بدء التكوين حتى سدرة المنتهى ليس مجرد عابر سبيل فحسب، هو صاحب رسالة جامحة الرغبة سامقة الرؤية، تأبى إلا أن تترك بصمتها المحفورة على جبين الأيام، وسنبقى نقرأ بصمات ممهورة بتوقيع سعد الله هنا وهناك وحتى ما بعد الموت، فهي التي ترسم لنا حدود الأمل. درس سعد الله الصحافة في جامعة القاهرة، وعلى أعقاب شرخ الانفصال يبدأ أول نتاجه الفكري بمسرحية لم تُنشر بعنوان «الحياة أبدًا» ثم تبدأ مقالاته بالظهور بين صحف دمشقوبيروت فيكتب مسرحيته «ميدوزا تحدق في الحياة» لتُنشر على صفحات مجلة الآداب البيروتية ثم يكتب مسرحيته «جثة على الرصيف» ثم مسرحيتي «فصد الدم ومأساة بائع الدبس الفقير» وفي عام 1965 تُصدر له وزارة الثقافة مجموعة مسرحية بعنوان «حكايا جوقة التماثيل» وتضم مسرحيات «لعبة الدبابيس الجراد المقهى الزجاجي مأساة بائع الدبس الفقير الرسول المجهول في مأتم أنتيجونا» سافر سعد الله إلى فرنسا في مهمة دراسية استمرت من عام 1966حتى عام 1969 عاد خلالها إلى سورية على إثر نكسة حزيران ليكتب على إثر هذا الحدث مسرحيته الشهيرة «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» حيث اعتبرها العديد من النقاد فتحًا جديدًا في لغة المسرح العربي، وتتالى كتابات ونوس بين المقالة والدراسة والمسرحية، فيكتب مسرحية «الفيل يا ملك الزمان» و«مغامرة رأس المملوك جابر» ودراساته النقدية «بيانات لمسرح عربي جديد» وفي عام 1977ينشر مسرحية «الملك هو الملك» ويؤسس في تلك الفترة بالتعاون مع المرحوم المخرج فواز الساجر المسرح التجريبي فيتم عرض مسرحية «يوميات المجنون» المقتبسة عن نص لغوغول و«رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة» عن نص لفايس. كان من بين المهام التي أوكلت إليه قيامه بإصدار مجلة الحياة المسرحية عن وزارة الثقافة. لعل الحدث الأبرز شبه المجهول في حياة سعد الله ونوس هو توقفه عن الكتابة ما بين عام 1978م حتى 1989م حيث بدأ الانهيار في المشهد السياسي العربي بعد زيارة السادات لإسرائيل، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد إلى اجتياح لبنان واحتلال بيروت، هذه الأحداث جعلت سعد الله يعيش حالة من القلق الدائم، ويروي أنه في يوم تلك الزيارة المشؤومة للسادات كتب نصًا بعنوان «أنا الجنازة والمشيعون معًا»، ويقول: «كان علي باستمرار أن أواجه أسئلة هذا التاريخ الموجعة، لذلك كان لا بد أن أكسر صمتي لأكتب مسرحية تتناول القضية الفلسطينية، حيث كانت انتفاضة أطفال الحجارة إحدى حوافزي لكسر طوق الصمت الذي كنت غارقًا فيه». فكتب مسرحية «الاغتصاب» وفي عام 1992تبدأ رحلته مع المرض ولكن المرض لم يكن يعني له إلا الإصرار والتحدي ليزداد نهمه في الكتابة ويكتب مسرحية «منمنمات تاريخية» ثم يكتب بعدها مسرحية «يوم من زماننا» وفي عام 1994كتب مسرحية «طقوس الإشارات والتحولات» ثم «أحلام شقية» بعدها «ملحمة السراب» ثم «بلاد أضيق من الحب» فمسرحية «الأيام المخمورة» التي نشرت بعد رحيله. جال خلال هذه الفترة المليئة بالعطاء على دواوين الفكر والثقافة بين دمشقوبيروت، كرس خلالها عمله المهني في خدمة الإبداع مثلما أعطى لفكره مهمة الدفاع عن الحياة والحرية. ». تم نشر أعماله الكاملة في ثلاثة مجلدات كتب على الصفحة الأولى الإهداء التالي :«إلى ابنتي ديمة.. إلى جيلها والأجيال التي تليها» لم يكن سعد الله ونوس مجرد ظاهرة فكرية ثقافية فحسب، بل كان قفزة فرس جموح فوق أسوار الحدود الناعسة، وبالرغم من العمر القصير الذي عاشه فهو من المبدعين القلائل الذين مزجوا بين الفكر والمعرفة والثقافة والحياة اليومية والهمّ الإنساني، واختار المسرح «وهو الفن الأول بين الفنون» اختيارًا مقصودًا لأنه أراد أن يحاكي الإنسان دون وسيط. * أديب و محامٍ سوري