لا لشخصنة القضايا من الذين ينطلقون في بعض القضايا من منطلقات شخصية السيد دينق ألور الذي تعتبر قريته التي ولد ونشأ وترعرع فيها واقعة في شمال السودان، وفق قرار محكمة التحكيم الدولية بلاهاي، ولذلك فإنه من المؤججين لمشكلة أبيي، وأضحى شغله الشاغل وهمه الأول أن تُضم كل منطقة أبيي لدولة الجنوب، وإلا فإنه سيفقد موقعه القيادي في الجنوب إذا أصبح «بين بين» أو من سكان الشمال بحكم الموقع الجغرافي لقريته. وأن قضية أبيي ليست أولوية بالنسبة للرئيس سلفا كير وحكومته وكافة أبناء الجنوب من المناطق والقبائل الأخرى، ولكن دينق ألور وصحبه هم الذين يضعونها على رأس الأولويات، ويريدون المساومة بها بتقديم اقتراح لتقديم تنازلات يأخذ بموجبها الشمال نسبة معتبرة من عائدات النفط لعدة سنوات مقابل تنازله عن أبيي وضمها لدولة الجنوب «أي تتم عملية مقايضة وبيع وشراء» من أجل ألا يفقد دينق ألور وقله من أبناء أبيي مواقعهم القيادية في الحركة الشعبية وفي حكومة الجنوب، ضاربين بالحقوق التاريخية للآخرين في المنطقة عرض الحائط. وعلى ذكر شخصنة القضايا فإن عدداً من زملاء الأستاذ باقان أموم عندما كان طالباً بمدرسة كوستي الثانوية مازالوا يذكرون ضيقه وتبرمه وكراهيته السافرة للعروبة والإسلام، وشكواه المريرة المتصلة من الاستعلاء العرقي الشمالي على حد زعمه. وذكر زملاؤه الذين كانوا معه بالداخلية والفصل، أنهم حاولوا أن يتوددوا إليه ويعاملوه أطيب معاملة، ولكنهم كانوا يحسون بأنهم كلما حاولوا الاقتراب منه زاد نفوره منهم، ولذلك كان شرساً وسافراً في عدائه عندما غدا فيما بعد نجماً سياسياً وقائداً حزبياً. وكان يوم إعلان دولة الجنوب كيوم عرسه، ولسان حاله يردد «هذه ليلتي وحلم حياتي»، ولولا أن المايكرفون قد نُزع منه عندما كان يهم بتقديم ضيفهم الرئيس البشير، لأخرج كل ما يختزنه في نفسه من مرارات متربسة. والآن وقد تحقق حلمه، نرجو أن تكون قد زالت من نفسه ونفوس الذين يشتركون معه في نفس المشاعر، كل مرارات وترسبات الماضي، ونرجو أن نكون جيراناً متآلفين لا أعداء متخاصمين. المحطة الثانية: النيل الأزرق مرة أخرى تابع الجميع ما دار في ولاية النيل الأزرق قبل وبعد الأحداث الدموية المؤسفة التي وقعت هناك، وكلهم يدركون أن التمرد المقدور عليه محصور الآن في جيوب ضيقة. ونأمل أن تسعى الحكومة بالتضامن مع الحكماء والرموز والقوى الحية بالنيل الأزرق، لحقن الدماء ومد جسور التفاهم مع حاملي السلاح المغرر بهم والمغلوبين على أمرهم ليضعوا السلاح، مع التعهد بتوفير العيش الكريم لهم باستيعابهم او ايجاد بدائل أخرى لهم. والمهم هو تنمية النيل الأزرق وتلبية كل مطالب أهلها المشروعة. ولكن يبدو أن عقار مازال سادراً في غيه القديم، ومازال يأمل في أن تعقد الحكومة معه مفاوضات في الخارج يحضرها ويشارك فيها بعض الوسطاء الأجانب، ولعله مازال يتطلع لموقع سيادي قيادي بالقصر الجمهوري بعد إبرام اتفاقية بين الطرفين يمثل فيها هو ما أطلقوا عليه الجنوب الجديد، وبموجب هذه الاتفاقية التي يجري نسجها في الخيال، يحق لهم أن يحلوا محل الدستوريين الجنوبيين السابقين الذين كانوا يشغلون مواقع في الحكومة الاتحادية والولايات الشمالية قبل الانفصال، أي أن هؤلاء يتطلعون إلى أن يصبحوا ورثة لأولئك. ومن حق عقار الذي جنى على نفسه بنفسه و«طبظ» عينه بأصبعه، أن يحلم كما يشاء ولكنها قطعاً أحلام يقظة، بل أنها كأحلام «ظلوط»، ولن يستطيع أن يعيد اللبن الذي سكبه بيديه على الأرض، ولتكن المفاوضات مع البسطاء المغرر بهم حقناً للدماء. المحطة الثالثة: إنقاذ الوطن فرض عين إن على الجميع حاكمين ومعارضين ألا يدفنوا رؤوسهم في الرمال، وعليهم أن يعترفوا بأن الوطن الغالي الآن أمام تحديات أمنية واقتصادية عويصة تتطلب الوحدة الوطنية وتشابك الأيدي، ولا تحتمل الصراعات والمعارك «الدنكشوتية»، ودعونا في هذه المرحلة الحرجة من الحديث عن الأوزان والقدرات والامكانات، إذ أن أي صبي صغير غر يدرك أن الوطن فيه طرف أمسك بكل خيوط السلطة والمال على مدى اثنين وعشرين عاماً، ظل يسعى فيها لتمكين نفسه. وفي الطرف الآخر ظلت هناك قوى سياسية أخرى متنافره سياسياً أو فكرياً، ولكن الذي يجمعها هو سعيها لإسقاط النظام، وهي لا تملك شيئاً يذكر لأنها ظلت بعيدة عن السلطة، وبعضها ظل يقاوم بلسانه فقط. وفي ظل هذه الظروف كانت الدعوة للمشاركة في السلطة مثل «دعوة المراكبية»، ولكن المرحلة لا تحتمل الدعوة للمشاركة بطريقة التابع والمتبوع والقاطرة والمقطورة، ولا بد من تنازلات من كافة الأطراف، وعلى سبيل المثال فإذا كان «ايجاد منصب كبير لزعيم حزبي كبير» يساهم في التقارب، فماذا يضير السعى لإيجاده له دون تأثير على شاغلي المواقع الآخرى. وماذا يضير إرجاء إعلان التشكيل الوزاري قليلاً «بعد أن تأخر كثيراً» لمزيد من المشاورات مع حزب الامة القومي والحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، والضرورة تقتضي القيام بجولات ماكوكية وزيارات للأشقاء والأصدقاء في الخارج، واذا ضمت هذه الوفود الرسمية رموزاً ذات ثقل ووزن فإنها سوف تساهم في سد العجز. والمرحلة تحتاج لكل السواعد والعقول. وليتسامَ الجميع فوق الصغائر للمساهمة في إصلاح الإعوجاج وتقويم المسيرة، وعدم الشد والجذب، والاعتراف بالأمر الواقع والنظام الماثل. والله من وراء القصد.