أنقلكم إلى قرية البسلي على ضفة نهر عطبرة الغربية من أعمال مركز الدامر تلك القرية التي نشأتُ بها وكانت هي مركز أو عاصمة الأتبراوي = وكانت رئاسة البلد وهي العمودية التي تنعقد فيها محكمة العمدة الأهلية والعمدة الشيخ صالح ود حبيب الله عمدة المقرن = كانت تلك القصة التي أرويها حدثت في أوائل الأربعينيات.. وهي نهاية الحرب العالمية الثانية. هي تلك الحرب التي قال عنها الشاعر = الطيارة جاتنا تحوم كتلت حمار كلتوم ست اللبن = كنت في تلك الأيام صغيراً ألهو مع أقراني في القرية حيث لا توجد مدرسة وكان البلد تحت حكم الاستعمار وقد كان مفتش المركز يزور القرية من وقت لآخر حيث يراقب أعمال المحكمة وسيرها. وكنا وشقيقي إبراهيم صغاراً وحينما يحضر هذا المفتش نجد مجالاً نجلس لنتفرج عليه حيث البرنيطة والتي كنا نقول عنها إنها طاقية كبيرة وننظر لهذا المفتش بتعجب وهو ممسك بالكدوس ينفث دخانه في الهواء ومعه عساكر يحملون السلاح وما كنا نرى العربية إلا أننا نسمع بها وكان جناب المفتش يحضر بعربة اسمها الكومر.. ولا يسمح لغيرنا بالجلوس بالقرب من عنقريب أو سرير جنابو غيرنا فنحن أبناء العمدة وننظر إليه في دهشة واستغراب، وقال للوالد هؤلاء أبناؤك: قال عنهم هم أولادي الصغار وعندي كبار خلاص وأحدهم شيخ القرية: قال له هل دخلوا مدرسة وبالطبع ما كانت توجد مدرسة ولا نعرف عنها شيئاً: قال له الوالد لا توجد هنا مدرسة.. وقال له المفتش ممكن ناخد واحد من أولادك نُلحقه بالمدرسة بمدينة الدامر ووافق الوالد فوراً وأعطاه اسم أخي الأكبر إبراهيم وكتب له جوابًا لناظر مدرسة الدامر ليقبله بها، وفي الصباح الباكر أخذوا أخي إبراهيم ليسافر للدامر للمدرسة وكانت المواصلات هي الحمير بدون مؤاخذة ولكنني ظللت أجري خلفهم لأذهب للمدرسة وأشوف البندر الذي أسمع به وهنا أمر والدي بأن أعود للمنزل بعد ضرب من أخي عبد الرحيم وأعادوني للمنزل وأنا أبكي وأغلقوا عليَّ الباب كي لا أهرب خلفهم ونزل الوالد ومعه الخفير وأخي إبراهيم بقرية البيرة وباتوا الليلة في طريقهم للدامر وفي الصباح الباكر أحضروا لهم الشاي ولكنه سادة بدون لبن = وبعدين يحضروا اللبن وأعطوا أخي إبراهيم كباية الشاي السادة ولكنه رفضها ورقد على الأرض.. وسأل الوالد قائلاً ماله رقد قال له صاحب المنزل إنه حردان الشاي السادة فيما يبدو ونحن بعد شوية سوف نحضر الشاي باللبن وطوالي الوالد قال لأخي الشيخ وهو الخفير أرجعه وأحضر أخاه الذي هو شخصي ولكن صاحب المنزل قال يا عمي العمدة ما ترجعه ونحن نحضر له الشاي باللبن قال: لا، يرجع عشان يمكن الدامر ما فيها لبن، وهكذا عاد أخي إبراهيم الذي رفض شرب الشاي السادة ولو شربه لكان ذهب للمدرسة وتعلم وأكون أنا أمي بدون قراية.. وهكذا أعادوه وركبت وأنا فرحان على الحمار وذهبت للمدرسة ولأول مرة أشاهد البندر وأخدني الوالد للمدرسة بتصديق مفتش المركز، وهكذا أيها السيدات والسادة كما قيل قديماً تقدرون وتضحك الأقدار، كان المقرر أن يكون شقيقي بالمدرسة ولكن بسبب عدم شرابه للشاي أعادوه، وكنت أنا حيث لعب الشاي دوراً في مجرى حياتي وأنقذني من الظلمات.. وكنتُ الوحيد بين تلك العائلة الذي تعلم = وكان يمكن أن أكون مدينًا بالوفاء لهذا الشاي السادة الذي لعب دوراً في حياتي ولكنني لا أحبه وبيني وبينه ود مفقود: لست أدري هو عدم وفاء مني أم ماذا؟ وصار أخي إبراهيم أميَّاً بسبب عدم شربه للشاي السادة ولكن أخي هذا مع أميته هذه أكرمه الله بأن يكون كريماً يُضرب به المثل في كرمه: وكان يحب الضيفان وإذا فقدهم يتطلع للشارع ليرى ضيوفاً قادمين يقودهم للمنزل، عليه الرحمة والرضوان كان إذا شتوا لنحار وعلم في رأسه نار، وتلك الأيام نداولها بين الناس لعلهم يتفكرون، وكما قيل تقدرون وتضحك الأقدار.. شكراً أيها السادة.