الشقاق والتنازع والخصام واختلاف التضاد سواء كان في الجانب الديني أو السياسي والفكري أو الاجتماعي من أشد البلايا وأخطر بنات الدهر اللائي أصبن أمتنا في مقتل حيث ذهبت قوتها إلاّ قليلاً ووهن عظم العلاقات وفُت في ساعد الحوار والصلات، تراخى حبل وصال الجماعة وجفّت مشاعر الأخوة والمودة بين بني الأمة إلاّ من رحم ربي وقليل ماهم! رغم وصايا القرآن الكريم الخالدة الحية التي شددت على حسم التنازع والشقاق الذي يُفضي إلى أن يجعل الأطراف على طرفي نقيض كلٌّ في شق وناحية ينتهي إلى التقاطع والتناجش والتدابر والكراهية وبتر حبال المودة والحوار والتواصي بالحق والنهي عن المنكر والأمر بالمعروف والأخذ بالعفو وحسن الظن واتباع العُرف إلا أن الأمة لا تزال تعاني من هذا الخطر الذي لا يُبقي ولا يذر. إن الله تعالى خلق الناس وفقاً لمشيئته بعقول ومدارك مختلفة ومتباينة إلى جانب اختلافهم في الألسن والألوان والأفكار والتصورات وهذه في حد ذاتها آية عظيمة تثري الحياة بتعدد الآراء والأفهام، وإذا كان أختلاف الألسن والألوان والقبائل آية من الآيات العظيمات في خلقه كما أكد ذلك القرآن فإن اختلاف المدارك أيضاً آية من آياته في خلقه، ولو صار الناس نسخة واحدة في الفهم والآراء وسياسة الحياة العامة لتوقفت هذه الحياة وانتهت إلى الزوال والفناء قال تعالى «ولو شاء ربُّك لجعل الناس أمُة واحدة ولا يزالون مُختلفين إلاّ من رحم ربُّك ولذلك خلقهم وتمت كلمةُ ربك لأملانَّ جهنم من الجنة والناس أجمعين» سورة هود الآية «118 119».. هذه تشير إلى أن الاختلاف سنة ماضية في الناس إلى يوم القيامة، غير أنَّ من المهم جداً أن هناك فرقًا كبيرًا بين اختلاف التنوع واختلاف التضاد ولذلك يمكن لنا أن نفرق بين اختلاف المعاني في مصطلحات الاختلاف والخلاف والمجادلة والجدل و الشقاق ونعرف المقبول منها فنأخذ به والمردود منها فننتهي عنه.. ولذا يمكن أن نعرف الاختلاف والمخالفة بأنها «أن ينهج كل شخص طريقاً مغايراً للآخر في حاله أو قوله» وبهذا يمكن أن الاختلاف محدود محمود والخلاف مطلق مذموم لأن الخلاف أعم وأشمل، والاختلاف والخلاف يُراد بهما مطلق المغايرة في القول أو الرأي أو الحالة أو الهيئة أو الموقف، فإذا أشتد أمرهما وبدت المنازعة والمجادلة صارا ضدين لأن كل ضدين مختلفيان.. هناك أنواع للاختلاف منها الجدل: وهو أن يشتد اعتداد أحد المختلفين أو كليهما بما هو عليه من قول أو رأي أو موقف ويحاول إقناع الآخرين به أو حملهم عليه بالجبروت وهذا يسمى الجدل أو المجادلة، لأن أصل الجدل في اللغة مأخوذ من «جدلتُ الحبلَ» وهو بذلك يعني المفاوضة والمحاورة على سبيل المنازعة والمغالبة. ومنها الشقاق وهو أن تشتد الخصومة بين المتجادلين، ويُؤثر كل منهما الغلبة على الآخر بدل الحرص على تحرِّي الحق ونصره ووضوح الصواب، فإذا تعذر بينهما الوفاق والوئام ومشتركات اللقاء سُمِّيت تلك الحالة بالشقاق وهو أشد أنواع الخلاف إيلاماً وأصله في اللغة أن يبتعد كل واحد عن الآخر في جانب بعيد، كل واحد في شق من الأرض، فكأنما أرض واحدة صارت لا تسعهما قال تعالى في سورة النساء الآية 35 «وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يُريدا إصلاحاً يُوفِقِ اللهُ بينهما إنّ الله كان عليماً خبيراً» هذه الآية تتحدث عن الخلاف بين الزوجين ولكن العبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. إن من أنواع الخلاف حسب منطلقات الناس الفكرية والنفسية وهي كثيرة منها أولاً خلاف يمليه الهوى كما قال الله تعالى في سورة الأنعام الآية «56» «قُل إنّي نُهيتُ أن أعبدَ الذين تدعون من دون الله قُل لا أتبعُ أهواءكم قد ضللتُ إذاً وما أنا من المهتدين». ثانياً خلاف يمليه الحق كاختلاف المسلمين مع أهل العقائد الكافرة وأهل الضلالات والبدع من الملاحدة واليهود والنصارى والبوذيين والوثنيين والشيوعيين وهذا خلاف سببه عقيدة الولاء والبراء قال تعالى «محمدٌٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رُحماءُ بينهم».. سورة الفتح الآية «29» ثالثاً هناك خلاف وهو بالأحرى اختلاف في الأمور الفقهية الفرعية كالاختلاف حول حكم القراءة خلف الإمام، وقراءة البسملة قبل الفاتحة وأحكام تتعلق بصلاة المسبوق وتغطية كفي المرأة وجهها من عدمها وهذه مسائل تدور حول الراجح والمرجوح والمكروه والمباح والمندوب وأوجه الاستشهاد والاستدلال عند الفقهاء حسب اختلاف عقولهم وقدراتهم الاستنباطية. رابعاً هناك فوائد للاختلاف، ولا شك هو الاختلاف المقبول منها: أولاً: التعرف على جميع الاحتمالات. ثانياً: فتح مجالات التفكير للوصول إلى سائر الافتراضات ثالثاً: تعدد الحلول في الواقعة الواحدة لأجل التنذليل والتسيير وفق حاجات الناس ومناط تنزيل الأحكام في النوازل والحالات المعتادة. إن كانت هذه بعضاً من فوائد الاختلاف المقبول فإن الخلاف المذموم الذي يوقع بين أبناء الأمة الواحدة الشقاق والعداوة والتخاصم والتناحر والتنازع إلى حد التقاطع حرام حرام نهى عنه الشرع الحنيف، فكم فينا من جراح جراء هذا الخلاف القاتل.. ألم يأنِ للأمة أن ترعوي وتنتبه إلى خطورة التعامي عن أحوالها في أمر خلافها؟ يقول عليه الصلاة والسلام من رواية أبي هريرة «ذروني ما تركتكم إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم»، وقال ابن مسعود رضي الله عنه وجميع أصحاب رسول الله الأحباب «الخلاف شر». آن الأوان لقادة الأمة من العلماء والدعاة والأئمة وطلاب العلم والساسة والإعلاميين والأكاديميين أن ينتبهوا لأمر أمتهم وما يُحاك ضدها في حملة عالمية مجنونة كلها شر.