إن العالم يجابه تحديات خطرة ويمر اليوم بثورة أخلاقية جذرية، وقضية التجسس الأمريكية اسقطت وسقط معها معظم المفاهيم والقوانين الأخلاقية في العالم، حيث من الصعب تصور كيف يمكن لدولة مثل الولاياتالمتحدة أن تتخذ لنفسها هدفاً هو الفهم الكامل للكون بأسره، من خلال استخدام الفلسفة المادية السياسية الزائفة أساساً في مراقبة ورصد ومتابعة كافة شعوب العالم بواسطة المفاهيم الموروثة والنظرية الموحدة Grand Unified Theory، تلك النظرية التي تتحكم في أكبر وأصغر الأشياء في فضاء الكون من خلال القوى الكهرومغناطيسية التي تحفظ الالكترونات في مدارها حول النواة والتطبيقات الميكانيكية الالكترونية وتراقب جسيمات غبار الفضاء فضلاً عن الفتونات التي يتكون منها الضوء وتسجيل الأصوات من كتابة كلمات وجمل على الشاشة الإلكترونية بهدف استدماج العالم والسيطرة عليه على أساس أن الشر مبدأ أساسي والأساس في فكرة الخطيئة . فضيحة التجسس الأمريكية على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وقبلها على ملايين المكالمات في فرنسا، قد ألقت بثقلها على جدول أعمال القمة الأوروبية التي عقدت في بروكسل يوم الجمعة 25-10-2013 . واعتبرت المفوضية الأوروبية أنه قد حان الوقت ليصدر الاتحاد الأوروبي ردَّ فعلٍ قوي وموحد لهذه الإهانة الأمريكية . وندد رئيس المفوضية خوسيه مانويل باروزو بممارسة الولاياتالمتحدة، مشدداً على حق الأوروبيين في حماية حياتهم الشخصية، وزاد: "لا يمكن أن يتصرف المرء كأن شيئاً لم يحدث، إذ يعرف الجميع نتائج استغلال دولة قوتها للتسلل إلى حياة الناس" . وكانت صحيفة "لو موند" الفرنسية قد كشفت الأسبوع الماضي أن الولاياتالمتحدة قامت بالتجسس على ملايين المواطنين الفرنسيين، وقالت الصحيفة: "إن وكالة الأمن القومي الأمريكية قامت بتسجيل 70 مليون بيان هاتفي- اتصال أو رسالة قصيرة- للفرنسيين طوال ثلاثين يوماً ما بين 10 ديسمبر/كانون الأول 2012 إلى 8 يناير/كانون الثاني ،2013 بحسب وثائق سربها العميل السابق في الوكالة الأمريكية إدوارد سنودين" . وكانت أزمة أخرى مماثلة قد انفجرت في ألمانيا قبل مدة، عندما سرب سنودين أيضاً، وثائق تثبت أن وكالة الأمن القومي الأمريكية قد تجسست على ملايين الاتصالات الهاتفية والرسائل النصية تعود لمواطنين ألمان، على رأسهم المستشارة الألمانية ميركل . هذه الأزمة الجديدة مع فرنساوألمانيا كشفت أن التجسس الأمريكي لا يقتصر على هاتين الدولتين فقط، بل يشمل مختلف دول الاتحاد الأوروبي، بل مختلف دول العالم، وفق خطة تقوم على أساس أن يتم التجسس لمعرفة اتجاهات الناس، وميولهم وأفكارهم من خلال المحادثات الهاتفية والرسائل النصية ورسائل الإنترنت، وهذا أمر مهم جداً لصياغة السياسات المناسبة لكل دولة، وبما يسهم في استمرار الهيمنة الأمريكية على العالم . ولا يقتصر موضوع التجسس على الولاياتالمتحدة، بل كل دولة، سواء كانت كبيرة أم صغيرة، تحاول أن تتجسس على الدول الأخرى، وخاصة المجاورة لها، لكن أزمة التجسس الماثلة اليوم هي أزمة إعلامية، أي بمعنى أن الإعلام هو الذي قام بالكشف هذا الحدث وإعطائه أبعاداً أخرى، ذلك أن الأجهزة المختصة في تلك الدول التي وقعت ضحية للتجسس الأمريكي، كانت تعلم أن الولاياتالمتحدة تتجسس، لكن الشعوب هي التي صدمت من جراء هذا الكشف الإعلامي، وعلى رؤوس الأشهاد، ويعود الفضل في كشف هذه الأسرار إلى إدوارد سنودين، الذي عمل فترة طويلة في وكالة الاستخبارات الأمريكية، ثم خرج منها ومعه كمية هائلة من الأسرار عن عمليات تجسس كبيرة ودقيقة ضد دول وشعوب دول العالم . إن شعوب أوروبا التي ترى نفسها أنها حققت من التقدم والرقي الكثير قد شعرت بطعنة نجلاء، وهي ترى نفسها تتعرض لعمليات تجسس دنيئة على حياتها وخصوصياتها، وممن؟ من قبل حليف، يُفترض أنه يعد من أقرب وأخلص الحلفاء لها ألا وهي الولاياتالمتحدة . إلا أن أزمة التجسس هذه ليست سوى سحابة صيف في مسار العلاقات بين ضفتي الأطلسي، فلا يمكن أن نشهد قطعاً للعلاقات بين الجانبين على خلفية هذه الأزمة، وقد أعلنت دول أوروبا أنها ستسعى إلى إيجاد أرضية تفاهم مع الولاياتالمتحدة قبل نهاية العام في ما يتعلق بمسائل التجسس، أي أنها ستحل المشكلة بالتفاهم وليس بقطع العلاقات الاستراتيجية . لكن ترى وبعد كل فضائح التجسس هذه، هل ستتوقف الولاياتالمتحدة عن التجسس على الدول الأخرى الحليفة وغير الحليفة؟! الواقع أن صياغة السياسة هي عملية مستمرة مع استمرار توالي الأيام والليالي، وكل يوم هناك تطور جديد في العالم . فمثلاً الإرهاب القاعدي الذي كان محصوراً في التسعينات من القرن الماضي بأفغانستان، تمدد هذه الأيام إلى دول كثيرة أخرى، وفي أوروبا هناك شبكات تعمل في الخفاء لمصلحة هذا الإرهاب، ولا يمكن الانتظار حتى يحقق هذا الإرهاب أهدافه، وقد تكون أجهزة الاستخبارات الأوروبية متيقظة، وتتابع كل شيء يجري على الأراضي الأوروبية، لكن المصفاة النهائية لكل عمليات التجسس والمراقبة في العالم تصب في البحر الأمريكي، فهناك مقر الاتصالات الدولية سواء من هواتف أو إنترنت أو غير ذلك من وسائل الاتصال الأخرى، ولذلك سوف يستمر التجسس الأمريكي في كل اتجاه؛ لمقارنة المعلومات المتوفرة مع المعلومات التي يمكن الحصول عليها والخروج بنتائج تسهم في معرفة خطط الإرهاب وسواه، ولعل خصوصية الناس في كل مكان هي التي تقع ضحية التجسس، لكن في عالم متشابك ومترابط وخطر كالعالم الذي نعيش فيه، فإنه لا مناص من الاستمرار في التجسس، سواء على مستوى الدول أو داخل كل دولة على حدة، بل يجب التوسع في هذا النطاق- في إطار القانون- خصوصاً في عالمنا العربي الذي يموج بالمتطرفين، وبمن يحمل أفكارهم حول إقامة "دولة الخلافة" من خلال تدمير الدولة الوطنية وإشاعة الفوضى والخراب في كل مكان . وبالتجسس المستمر يمكن تقليل خطر تلك الجماعات إلى أدنى مستوى . إن ما قامت به الولاياتالمتحدة يمكن تصنيفه على أنه أزمة أخلاقية وسياسية، ستظل تطارد الإدارة الأمريكية، لعقود طويلة من الزمن، فرغم مرور ما يزيد على ثلاثة عقود لا يزال العالم وخاصة الولاياتالمتحدة يتذكر فضيحة ووترغيت 1968 حين قرر الرئيس الأمريكي نيكسون التجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس في مبنى ووترغيت . وفي 17 يونيو/حزيران 1972 ألقي القبض على خمسة أشخاص في واشنطن بمقر الحزب الديمقراطي، وهم ينصبون أجهزة تسجيل مموهة . كان البيت الأبيض قد سجل 64 مكالمة، فتفجرت أزمة سياسية هائلة وتوجهت أصابع الاتهام إلى الرئيس نيكسون . واستقال على أثر ذلك في أغسطس/آب عام 1974 . وتمت محاكمته بسبب الفضيحة، وفي 8 سبتمبر/ايلول 1974 أصدر الرئيس الأمريكي جيرالد فورد عفواً بحق ريتشارد نيكسون بشأن الفضيحة . وها هم الأمريكيون يعاودون الكرة ولكن مع حلفائهم الأوروبيين وهذه المرة فهل تمر هذه الأزمة مرور الكرام؟ أم أنها قد تطيح بعرش أوباما كما أطاحت بعرش نيكسون من قبل؟ فلننتظر فربما يكون في جعبة سنودين الكثير لم يخرج بعد .