الجزيرة تلك الأرض الطيبة الخضراء التي تشكِّل عصب الاقتصاد الوطني بالبلاد، وهي الأم الرؤوم التي احتضنت في حناياها كل قبائل السودان من الشرق والغرب والجنوب والشمال وبمختلف سحناتهم وأعراقهم ومشاربهم وألوان طيفهم.. بل هي الموطن الحقيقي لكل أهل السودان وأهل جنوب السودان، ومنها انطلقت شرارة الثورة المهدية بكل رموزها وشخوصها ومجدها وعزها؛ فالإمام محمد أحمد المهدي تعلَّم في خلاويها بطيبة الشيخ القرشي ود الزين وتزوَّج السرة بت الشيخ البصير بالحلاوين، وكذلك ابنة أحمد سليمان أحد أُمراء المهدية وأمين خزينة المهدي برفاعة وابنة أولاد قيلي برفاعة.. وفي الجزيرة خازن أسرار المهدية ود البصير الأمير المعروف الذي سمي شارع ود البصير بأم درمان باسمه.. ومن الجزيرة انطلقت ثورة المجاهد الشهيد عبد القادر محمد إمام ود حبوبة (جدنا) الذي أشعل جذوة الثورة المهدية بعد أن كادت تُخمد، وجمع الأنصار ورتبهم ونظمهم ضد المستعمر والأوباش البيض، حيث زعزع أركان المستعمر، وهدم بنيانهم بأن رفض أن ينصاع للمستعمر وذبح المفتش الإنجليزي والمأمور المصري في سبيل إعلاء كلمة اللَّه بأن تكون هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وجاهد ود حبوبة وأتباعه حتى لقي ربه راضياً مرضياً كأول شهيد في السودان يتم شنقه وإعدامه وسط أهله وعشيرته بسوق الحلاوين.. واستشهدت حبوبتنا في قصيدتها المشهورة (بتريد اللطام).. لو كان بالمراد واليمين مطلوق.. ما كان بتشنق ود أبكريك في السوق.. والجزيرة كانت محط أنظار الثورات ومنها انطلقت أول شرارة لثورة (1924م) ونادي الخريجين بود مدني ودونكم أحمد خير المحامي.. وكذلك من أبناء الجزيرة الذين قادوا لجنة الزعفران ضد الأوباش البيض بكلية غردون التذكارية شاعر أنا سوداني محمد عثمان عبد الرحيم أطال اللَّه عمره (كل أجزائه لنا وطن.. إذ نباهي به ونفتتن.. نتملى بحسنه أبداً.. دونه لا يروقنا حسنُ).. هذه الثورة التي حطّمت القيود وأعلنت العصيان على المستعمر.. والجزيرة ولدت وما أعظم أبناؤها الذين جاءوا من صلبها ورضعوا من ثديها، ود سعد شاعر المهدية والفكي آدم أحفظ الحفاظ لكتاب اللَّه، والشيخ محمد الأمين القرشي الداعية الذي ضرب الأصقاع النائية من جبال النوبة وأسلم على يده أكثر من عشرة آلاف شخص.. والجزيرة انطلقت منها ثورة الشهيد الشريف أحمد ود طه بالشرفة وما أعظم الأشراف، والجزيرة الشيخ القرشي ود الزين الذي تتلمذ على يده الإمام محمد أحمد المهدي.. والجزيرة موقعة الشكابة وأولاد المهدي البشرى والفاضل والخليفة شريف، والجزيرة الشريف يوسف الهندي والشريف حسين الهندي وزير المالية الذي كان يكتب خطاب الموازنة على صندوق السجاير البينسون، ومأمون بحيري الذي تفرّد في وضع موازنة الدولة وجلب المواعين الإيرادية دون أن يكون هنالك عجز في الموازنة.. والجزيرة الشيخ الأمين محمد الأمين أول وزير صحة في حكومة سر الختم الخليفة والذي ضرب أروع الأمثال في قيادة اتحاد المزارعين والتضحية والوطنية ورفض الظلم والاستبداد.. والجزيرة أول من نادت بتعليم المرأة على مستوى السودان وكان ميلاد أول مدرسة بنات في رفاعة عام (1903م) حيث انطلقت منها رائدات التعليم الأربع على نطاق البلاد.. ومن مدينة العلم والنور رفاعة الأستاذ محمود محمد طه والفنان العالمي عثمان وقيع اللَّه التشكيلي الذي طافت لوحاته على كل الدول الأوروبية، وكذلك الفنان العالمي عبد الرازق عبد الغفار الذي كان يقدم مسرحياته في المسرح البريطاني بلندن وكبريات العواصم الأوروبية.. والجزيرة الشيخ حسن عبد اللَّه الترابي المفكر الإسلامي المعروف وصاحب المشروع الحضاري الذي قامت عليه الإنقاذ.. والجزيرة ميرغني النصري وإدريس البنا وعمر البنا (الحرب صبرٌ واللقاء ثبات.. والموت في شأن الإله حياة.. وعبد اللَّه البنا (رعى الرحمن أهلك ما أقاموا.. وما رحلوا.. وحياك الغمام).. والجزيرة مأمون سنادة وزير الخارجية النسخة التي لا تتكرر.. والجزيرة قائد الكرمك اللواء زين العابدين قسم اللَّه عليه رحمة اللَّه، والجزيرة الفريق عز الدين علي مالك، والجزيرة شيخ العرب عوض الكريم أبو سن وشعراء البطانة وخيمة الحاردلو.. والجزيرة رواد التعليم في السودان أحمد علي جابر ونفيسة عوض الكريم وبابكر بدري وصلاح المليك وعائشة علي مالك.. والجزيرة محمد الطيب عمر رجل الأحزاب الذي ترفَّع عن النظرة الضيقة للأحزاب، وكان محبوباً لدى كل الناس بمختلف ألوان طيفهم السياسي.. والجزيرة الشيخ المجاهد مأمون تميم الذي حكم عليه جمال عبد الناصر بالإعدام ضمن الإخوان في مصر وهرَّبه الإخوان من مصر في جوال في عربة بضاعة بالقطر من أسوان إلى أن وصل السودان بكامل صحته وواصل دعوته إلى أن لقي ربه راضياً مرضياً.. والجزيرة الشيخ المقرئي الصديق أحمد حمدون الحافظ والمجود لكتاب اللَّه وقدم مع البروفيسور عبد اللَّه الطيب أعظم برنامج في إذاعة أم درمان (دراسات في القرآن) حيث تنبأ بيوم وفاته وجهز نفسه لذلك وأخبر عدداً من إخوانه في اللَّه بذلك وقد مات عليه رحمة اللَّه في نفس اليوم الذي حدده.