تنتشر ولله الحمد من قبل ومن بعد في بلادنا الحبيبة السودان عشرات الآلاف من المساجد تتراءى مآذنها شاهقة تعانق السماء تكبر الله القيوم العظيم صباحاً ومساءً، وذلك من فضل الله علينا وعلى أهل ملة الإسلام في كل مكان وزمان، أن هدانا إلى دين قيم، ملة أبينا إبراهيم عليه السلام وعلى أبنائه الأنبياء والمرسلين من بعده. إن الإسلام والإيمان نعمة عظيمة تفوق نعمة العيش والرزق والحياة والسمع والبصر والعافية والمال والبنون، ولذائذ الدنيا وزخرفها وزينتها العارضة الزائلة، إذ أن نعمة الإيمان تبقى خيراً وكنزاً لصاحبها في الدنيا والآخرة ينال بها رضوان الباري عز وجل ويصيب بها الخلود في جنان الخلد ودار المقام الباقي سرمداً. إن حاجة المسلم إلى المسجد أشد من حاجة الحوت والسمك إلى المياه العذبة التي يتوافر فيها الأكسجين الصالح والغذاء الطيب، ذلك لأن المسجد هو المكان الذي يغذي روح المسلم ويسمو بها ويترقى بها إلى درجات عظيمة، ولا يذوق لذة الإيمان وراحة البال والنفس والروح من هجر المسجد، وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام «خير البقاع في الأرض المساجد وشر البقاع الأسواق»، وكانت المساجد خير البقاع لأن المسلم فيها يتصل بالله مباشرة من خلال الصلاة والدعاء والذكر والتهليل والتكبير والتسبيح والبعد عن الغيبة والفجور والمعاصي، وكانت الأسواق شر البقاع لما فيها من الصخب والأخلاط والحلف بغير الله والحلف الكاذب والغش والتطفيف الذي يمارسه بعض الناس، ولما فيها من تناسي لذكر الله والانصراف إلى الشهوات واللهث وراء الدنيا ومطالبها التي لا سقف لها ولا حدود. إن من مظاهر الحضارة وسماتها الراسخة عند أهل السودان حبهم الشديد للمساجد وتعلقهم وإحساسهم العميق بواجب صيانتها وحفظها والاعتناء بها، وهذه سمات حضارية هذبتها وكملتها فطرة الإسلام التي تدعو إلى إقامة المساجد وبنائها ورعايتها قال تعالى «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ».. ولذلك لا يزال العمل دؤوباً والحركة حثيثة موّارة عند أهل السودان في سعيهم المستمر لتشييد المساجد وإقامتها وعمارتها لمكانتها الدينية والاجتماعية والتربوية والثقافية والسياسية والحضارية في حياتهم، حيث يتمنى كل إمرئ منهم أن يبني بيتاً لله لينال بشرى الرسول الكريم «من بنى بيتاً لله بنى له به بيتاً في الجنة»، وبيوت الله في أرضه هي المساجد والزوايا، وعمّارها هم ضيوف الرّحمن المكرمون.. تنتشر بحمد الله المساجد والزوايا والخلوات والكتاتيب في بلدنا الحبيبة في حضرها وبواديها وطرقها السريعة تؤدي دورها الحضاري بأكمل وجه، وهي محل اهتمام عند الدولة والشعب، وهي عنوان الوحدة وصفاء اللقاء واتحاد الشعور عند أهل الإسلام في السودان، وعند المسلمين في كل ناحية من نواحي المعمورة. من السلوك الجيد الذي حقق أهدافاً كبيرة في النهوض بالمساجد وتلبية حاجاتها المستمرة «جنيه الجمعة» الذي انتهجته كثير من لجان المساجد، حيث ينبه كل يوم جمعة الإمام الخطيب أو المؤذن أو أحد أفراد لجنة المسجد مذكراً المصلين أن يتصدقوا «بجنيه واحد» تبرعاً لخدمة المسجد، وقد وجد هذا السلوك الحضاري استجابة كبيرة عند جموع المصلين الذين يحتشدون كل يوم في المساجد الجامعة لأداء فريضة الجمعة التي هي عيد أسبوعي لأهل الإسلام يلتقون للتواصل والتعارف والتمازج والتعاضد والتزاور وتفقد أحوال بعضهم إضافة إلى حصيلة الشحن الإيمانية التي يتلقاها المسلم من خطيب الجمعة تذكره بالوعد والوعيد وتحثه على التمسك بعقيدة التوحيد والتزام السنة ونهج الصحابة والصالحين، وتبصره بأحوال الدنيا، وتحصنه من تداعيات الهوى والشيطان، وتحفز عقله ووجدانه وقلبه وشعوره، خاصة أن المسجد يعتبر منبراً إعلامياً مؤثراً يأتي إليه الناس طواعية واختياراً. لقد اكتسب جنيه الجمعة سمعة طيبة، وحقق أهدافاً عظيمة أدت إلى تطوير كثير من المساجد، من حيث النظافة والإنارة والبناء والسجاد وإعانة طلاب العلم والخلوات، والشيوخ الراتبين في المساجد، وإصلاح أعطاب السماعات والمراوح والمكيفات، وتشييد الحمامات وصيانتها وشراء أكفان الموتى، ومساعدة بعض الفقراء الذين نذروا حياتهم لخدمة المساجد من مؤذنين و«خدام مساجد» وهي من أجل الأعمال عند الله تعالى. جنيه الجمعة مبلغ قليل في حد ذاته يستطيع كثير من المسلمين توفيره على مدى أسبوع ليأتي يتصدق به يوم الجمعة عقب الصلاة، ولكن أثره عظيم يجسد روح التعاون والتسابق نحو البر ويسد حاجة ماسة قائمة على واجب فرض الكفاية وهو جهد فردي يبتغي به صاحبه وجه الله تعالى، فبمثلما يقال كما في المثل والشعر والحكمة «النار من مستصغر الشرر» كذلك الخير والثواب من مستصغر الأعمال إن خلصت النيات «اتقوا النار ولو بشق تمرة». إن ما نأمله من خلال هذا العمود «دلالة المصطلح» أن يعي جميع أهل الإسلام في بلدنا وفي سائر بلدان الإسلام أهمية هذه الصدقة الصغيرة التي تحول دورها إلى أثرٍ عظيمٍ في حياة المسلم حين يدفع كل منا فقط جنيهاً واحداً لمدة أسبوع لأجل إعمار بيوت الله ومن زاد فأجره على الله تعالى، ونأمل أيضاً أن تعمم هذه التجربة الجديرة على المساجد كافة داخل بلادنا في قراها وبواديها ومدنها وأريافها، فلقد حقق جنيه الجمعة هذا نتائج مرضية طورت المساجد وسدت ثغرة في جدران الأمة ومثل سمة حضارية لأهل السودان.