ما هو تقييم الأداء الفعلي للإستراتيجية السودانية بجانب السند المطلوب توفيره من الأحزاب السياسية لضرورة استقرار الأوضاع؟ وهل ما هو متاح من حريات يساعد على إحداث التأثير المطلوب؟. هذا وغيره من الأسئلة الشائكة والتي تتطلب الإجابة عنها دقة وخبرة وتحتوي على دلالات تتجاوز الصعيد الأهلي إلى شخصية الدولة نفسها، لذلك كان حريًا بنا أن نجلس إلى البروفيسور محمد حسين سليمان أبو صالح الخبير الإستراتيجي المعروف الرجل المتفرد وصاحب المذاهب في هذا الاتجاه، وقد أثمر الحوار عن قراءات ونتائج ربما لم تجد طريقها إلى الساحة إلا من خلال هذا الحوار الذي تحدث فيه بكل صراحة عن السيناريوهات العديدة والتي لها ارتباط وثيق بالراهن السياسي إضافة إلى وقوع السودان في محور الصراع الإستراتيجي وغير ذلك الكثير من الدلالات الإستراتيجية التي أبحرنا معه خلالها فإلى نص اللقاء: كيف تنظر للراهن السياسي من وجهة إستراتيجية؟؟ ليس من السهولة الحديث عن الوضع الراهن إن كان سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو حتى أمنياً إلا باستصحاب البُعد الإستراتيجي وأنا مؤمن تماماً بأن الحكم على الأشياء لم يكن دقيقاً إلا إذا وُضع تحت المظلة الإستراتيجية.. والسودان بحكم مزاياه المتعددة الموقع الإستراتيجي والموارد الطبيعية الإستراتيجية، الأرض الزراعية المياه الجوفية والنيلية والمعادن الإستراتيجية المختلفة التي يجري حولها الصراع، الإطلال على سواحل البحر الأحمر، كثير من المزايا جعلت السودان مكان اهتمام القوى الأجنبية المختلفة على مرور الحقب.. لذلك أؤمن تماماً بأننا ظللنا نتعرض لإستراتيجيات أجنبية تعبِّر عن مصالح مختلفة.. هذه الإستراتيجيات لديها مداخل سياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية وغيرها، تسعى لفتح المحاور في سبيل تحقيق المكاسب الإستراتيجية، وإذا أخذناها بفذلكة تاريخية سنجدها منذ قانون المناطق المقفولة.. والاستعمار المباشر إحدى هذه الآليات، إلى أن وصلنا إلى الوضع الراهن حكومات ديمقراطية وأخرى عسكرية انتهت بانفصال جنوب السودان.. انفصل الجنوب وأصبح هناك حكومة لها سيادة تحت سيطرة الحركة الشعبية تحت تأثير إرادة أجنبية أكثر من أنها إرادة وطنية ثم وضع في الشمال يواجه بقية المخططات الإستراتيجية الأجنبية في المنطقة. الإجماع الوطني من مقومات القوة الإستراتيجية السياسية فكيف يمكن تحقيق ذلك؟ ولماذا لا يوجد إجماع حول المصالح الإستراتيجية للدولة؟؟ نحن نتحدث عن الدولة السودانية وليس عن الحكومة السودانية، و سؤالك هذا نسأله الآن بعد 56 سنة من الاستقلال، ما هي مصالح السودان الإستراتيجية ثم من بعد هل تم الإجماع حولها؟؟ حقيقة لم أرَ إجماعًا حولها، والوضع السياسي أيضاً وحتى الآن السلوك السياسي الذي يرعى هذه المصالح الإستراتيجية ويؤمِّنها غير متوفر إلى يومنا هذا، إذ لا يوجد إجماع حول المصالح ولا يوجد إجماع حول المهددات الوطنية ولا عن نقاط الضعف الوطنية.. ومعلوم أن مواجهة الإستراتيجيات تحتاج إلى إستراتيجيات مقابلة، والإستراتيجية بفهمها العلمي تعني أنها خطة دولة تمثل دولة وليست بخطة حكومة تمثل حكومة، وبالتالي يبقى من الخطأ أن نواجه التحديات التي تواجه السودان بتخطيط حكومي غير مجمع عليه وهذا ما هو سائد الآن. اقتصاديًا: هناك تعقيد اقتصادي ناجم عن انفصال الجنوب دون أن يكون هناك استعداد مناسب لعواقب هذا الانفصال ولسوء الحظ أن هذا تم في ظل أجواء اقتصادية عالمية ألقت بظلالها على السودان.. إذن ما بين الأزمة الاقتصادية العالمية وتبعاتها وتعقيداتها وبين انفصال الجنوب الآن نواجه وضعًا اقتصاديًا يتمثل في خلل في ميزان المدفوعات وخلل في الميزان التجاري وبالتالي نقص العملة الحرة والقدرات الاقتصادية مكبلة. كيف تنظر إلى المساعي الجارية لتحقيق السلام في دارفور والتي انتهت بتوقيع اتفاق الدوحة ووصول قيادتها إلى دارفور؟؟ بنظري ونحن نتحدث عن واقع ووضع راهن، لم ننفذ حتى اليوم إلى جذور المشكلة من منظور إستراتيجي! فهل حقيقة مشكلة دارفور هي قضية بين هؤلاء الفرقاء السياسيين أم أن الأجندة الأجنبية تقف خلف ذلك؟؟ وبكل بساطة إن دارفور بها مصالح ضخمة جداً للأجندة الأجنبية، هناك مخزون إستراتيجي تقدره بعض الدراسات أنه من أكبر أربعة مخازن للنحاس عالي النقاء في العالم، فهناك اليورانيوم بكميات ضخمة جداً وهو مهم للصراع الإستراتيجي، هناك الحديد والغاز الطبيعي والبترول والذي أملك معلومات عن توفره بكميات كبيرة جداً. اذاً دارفور تضم من الثروات ما يجعلها تكون منطقة غنية جداً ويطمع فيها آخرون لذلك ستظل هنالك أجندة لهذه المنطقة وغيرها. ونجد أن الخطاب الإعلامي يشير إلى محاولات الاستفادة من التفتيت العرقي والتفرقة الإثنية واستخدامها بشكل سالب.. هناك الدور الرهيب للمنظمات الأجنبية ذات التمويل الأجنبي والآن تسيطر بشكل كبير فلها المال والسلطة في ظل نقص التمويل لبعض السلطات المحلية وهذا باختصار ما أراه للوضع الراهن. أشرت في حديثك أن القدرات الإنتاجية للسودان ما زالت مكبّلة، برأيك لماذا؟ نحن كثيراً ما نتحدث عن أننا حققنا إيرادات كبيرة جداً من النفط ونحن يجب أن نعترف بأننا لم نوفق في إدارة هذه الموارد بالشكل الصحيح فهناك كميات كبيرة جداً قد وفرت وكان يجب أن نؤسس لإدارة هذه الموارد في الناحية الزراعية والصناعية وكان يمكن أن يكون هناك بديل يحل ولكن بعد انفصال الجنوب انكشفت عورة الاقتصاد السوداني وهي الآن واضحة جداً إذ أننا نستورد قمحًا ولبنًا وزيوتًا وما إلى ذلك رغم أننا نملك أرضًا زراعية ضخمة مما يؤكد أننا لم نستفد من واردات البترول وهذا يتداخل مع سياسة التحرير الاقتصادي والذي قيل فيه الكثير عبر الصحف ولكن يجب أن نتوقف هنا قليلاً فالتحرير مع سوءاته التي يقول عنها الناس، هل طبقت سياسة التحرير في السودان؟؟ برأيي لم نطبق سياسة التحرير بالشكل المناسب حتى نستفيد من بعض إيجابياتها حتى لا تصير كلها سلبيات!! التحرير في أساسه عندما وضعه المفكرون الغربيون قصدهم كان توفير أوضاع تقود إلى التنافس الشريف بين المنتج والآخر وهذا اقتضى أن يسود النظام والقانون وتمنع الحماية الحكومية وخصخصة الشركات وتمتنع الحكومة عن الدخول في الإنتاج عدا النشاطات التي لها علاقة بالجهات السيادية كالموانئ وبالتالي في ظل هذه الأوضاع التي ليس فيها تمييز لمنتج على آخر ترتفع الجودة وتنخفض التكلفة وهذا دليله الآن الانخفاض الرهيب في تكلفة الاتصالات والارتفاع المذهل في جودة الاتصالات في السودان. مداخلة: وهل أضرت الخصخصة بالاقتصاد السوداني؟؟ خصخصة المشروع وانتقاله إلى شركة خاصة اشترط المفكرون أن يتم ذلك وفق شروط يجب توفرها في الشركة الخاصة وهي أن تكون مالكة للتكنولوجيا الحديثة، وهذا يعني أنه عندما بيع المصنع إلى شركة خاصة بها كل هذه المطلوبات يضمن لنا الإنتاجية الجيدة و يمكن أن ينافس بها عالمياً وهذا يُكسب فرص عمل للمواطن. الشرط الثاني هو أن يكون لهذه الشركة القدرة الإدارية لأن الممارسة في إدارة التنافس العالمي تحتاج إلى قدرة في الإدارة ولذلك لابد من فحص القدرة الإدارية في الشركات بالإضافة إلى توفر التمويل.. لكن الواقع أن كثيرًا من الشركات تمت خصخصتها لصالح شركات لا تملك القدرة المالية ولا الإدارية ولا التقنية وبالتالي كبلت، هذا إذا لم يكن هناك أجندة في غسيل أموال أو أجندة في تعطيل بعض المشروعات فهنالك مشاريع تم بيعها ولم تباشر الإنتاج كأنما يعني تعطيلاً لعجلة الاقتصاد. فسياسة التحرير تمت مع سياسات مالية نتيجة لقيام نظام الحكم اللامركزي ومحليات كبلت ببرلمانات محلية ووظائف دستورية كثيرة وصرف أثقل كاهل الولايات لجأت للرسوم وبالتالي هذه رزم متعددة كانت على الإنتاج وأصبح الإنتاج عالي التكلفة وأصبح لا ينافس وسلعه أرخص فخرجت بذلك المصانع من دائرة توفير الفرص للعمالة.. ولانطلاق الاقتصاد السوداني يتطلب الأمر إعادة التوازن في السياسات المالية بفك القيود المالية وينبغي أن نوفر بقية شروط التحرير حتى لا تنافس الحكومة القطاع الخاص ونوفر الأوضاع التي تضمن إنتاجًا جيدًا بمواصفات عالمية ورخيص، هناك آراء أكثر عمقاً وتحتاج لنظر إستراتيجي كمشروع الجزيرة الذي به أرض ومياه ما الذي يعطله؟! ينبغي أن ننظر في مركز صناعة القرار ونحتاج لدراسات في هذا الجانب حتى ننطلق للأمام. من حديثك هذا نجد أن سياسة التحرير تحتاج لمراجعة؟؟ نعم، فالتحرير بدأ الناس في مراجعته ومن ضمن المراجعات الآن أنهم اقتنعوا بأنه لابد من أن تتدخل الدولة ولا يمكن أن يُترك الاقتصاد لأهل المال والمظاهرات التي تعم العالم في أكثر من ألف مدينة تتحدث عن أن الشركات استأثرت بالمال وبدأت الحكومات الآن في التدخل حتى لا ينهار الاقتصاد ومن بينها أمريكا وبعض الدول الغربية والشرقية الكبرى فسياسة التحرير حقًا تحتاج إلى مراجعة، وإذا كان أصحاب التحرير قبل الأزمة المالية يدعمون الزراعة فلماذا نبقى نحن ملكيين أكثر من الملك ونزيل العبء من الزراعة؟ التحرير يحتاج إلى مراجعة فيما يلي تدخل الدولة وإرساء التنافس الشريف وعدم التمييز.. هناك مشكلة يعاني منها الغرب الآن وهو عدم الموازنة بين ممارسة العمل السياسي في التمويل الموجه للعمل السياسي وتغول الشركات وأصحاب المال على القرار السياسي مما أضر بالاقتصاد العالمي والأمريكي والغربي.. نحن أيضاً في السودان نحتاج إلى التقنين ويجب ألّا نفتح المجال لأصحاب المال حتى يكون باستطاعتهم التأثير على القرار السياسي. وكيف تنظر إلى تعويل المعارضة وبعض الأحزاب السياسية على مسألة غلاء الأسعار في تحريك الشارع ضد الحكومة؟؟ المعارضة تعتمد على ذلك في تحريك الشارع ولكن نحن نحتاج إلى الابتعاد عن ما يسمى بالمعارضة والحكومة لأن القضية الراهنة قضية دولة، وهذه الدولة هي السودان. ففي الغرب نجد أن سياسة التحرير متفق عليها بين المعارضة والحكومة، ونحن نحتاج لسياسات وإستراتيجيات تحكم السودان على المدار الإستراتيجي.