ما هو تقييم الأداء الفعلي للإستراتيجية السودانية بجانب السند المطلوب توفيره من الأحزاب السياسية لضرورة استقرار الأوضاع؟ وهل ما هو متاح من حريات يساعد على إحداث التأثير المطلوب؟. هذا وغيره من الأسئلة الشائكة والتي تتطلب الإجابة عنها دقة وخبرة وتحتوي على دلالات تتجاوز الصعيد الأهلي إلى شخصية الدولة نفسها، لذلك كان حريًا بنا أن نجلس إلى البروفيسور محمد حسين سليمان أبو صالح الخبير الإستراتيجي المعروف الرجل المتفرد وصاحب المذاهب في هذا الاتجاه، وقد أثمر الحوار عن قراءات ونتائج ربما لم تجد طريقها إلى الساحة إلا من خلال هذا الحوار الذي تحدث فيه بكل صراحة عن السيناريوهات العديدة والتي لها ارتباط وثيق بالراهن السياسي إضافة إلى وقوع السودان في محور الصراع الإستراتيجي وغير ذلك الكثير من الدلالات الإستراتيجية التي أبحرنا معه خلالها فإلى نص اللقاء: ألم تنتهِ تلك المخاوف بانفصال الجنوب؟ لم نقل انتهت ولكن حدث توفيق بانفصال الجنوب بيد أن هنالك أهدافًا إستراتيجية أخرى بإعادة تشكيل التركيبة السكانية للسودان تشكيلة جديدة تتم تحت سيطرة غير المسلمين وهذا يحل التناقض بين الإستراتيجيتين.. وهذا يبرهن أننا مستهدفون في راهن الصراع الإستراتيجي.. لذلك القضية وهذا الخطاب أوجهه للقوى السياسية حاكمين ومعارضين أن الوضع الإستراتيجي لا يهم الحكومة فقط فهو يهم الحكومة والمعارضة فالأمن القومي في العالم كله قضية الحكومة والمعارضة. فيما يلي الخطط الخمسية والرباعية هذه أشياء للحكومة وليس شأن دولة، وبالتالي تفصيل التنفيذ فيها ليس بمشكلة، لكن هل نواجه هذه الإستراتيجيات بخطط حكومية ؟؟ فقضية مياه النيل مثلاً ليست قضية مؤتمر وطني وإنما قضية دولة، وانفصال الجنوب لا يهم المؤتمر الوطني وحده وإنما يهم الوطن ككل، وللحقيقة فإن أحزابنا السياسية حتى الآن ليست قادرة على أن تفرق بين الدولة والحكومة !! فالصراع الإستراتيجي قضية تتعلق بالدولة السودانية وليس بالحكومة. لذلك لا يوجد حتى الآن إجماع وطني حول المصالح الإستراتيجية للسودان؟؟ نعم، لا يوجد إجماع وطني حول المصالح الإستراتيجية، وحتى هذه المصالح غير محددة وغير مجمع عليها، وحتى الحوار الذي شهدناه مؤخرًا بين دولة الجنوب والحكومة لم يكن ذا أهمية لأنه ناقش أشياء غير مهمة بين دولة الجنوب وحكومة السودان ولم يناقش قضايا الحوار السياسي والاقتصاد والعلاقات الدولية أو كيف نؤسس علاقاتنا مع دولة الجنوب وكان حول أجندة أقل أهمية. جرى الحديث عن الموارد التي يزخر بها السودان فكيف يمكن إدارتها في ظل أوضاع شائكة كهذه؟ أنا أعتقد أن هذه الموارد مثلما هي مصدر خطر يمكن أن تكون مصدرًا لتحقيق أمننا القومي، فالذهب والحديد والنحاس إذا ما اتفق الأحزاب على إدارتها يمكن أن نشكل بها قوة ويمكن أن تشاركنا أمريكا نفسها بل حتى اليابان في صناعة هذا المصير.. وانظر أخي بتمعن للاتفاق الذي وُقِّع قبل أيام مع خمسين شركة للتنقيب في السودان، ماذا كسبنا منهم؟ كان يجب أن نوقع مع الدول والتي بمقابلها يتوفر لنا السند السياسي والاقتصادي بتوفر السوق وتطور التكنولوجيا وليس الشركات، فإدارة هذه الموارد قضية أساسية لتحقيق الأمن القومي ولن يكتمل دون اتفاق، ونحن محتاجون حقيقة لتأسيس وضع جديد وسلوك جديد لإدارة الدولة من منظور إستراتيجي. أشرت في حديثك إلى الإستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة فهل الوجود الإسرائيلي بالجنوب يأتي تطبيقًا لهذه الإستراتيجية؟ إسرائيل رضينا أم أبينا لديها رؤى إستراتيجية تسعى لتطبيقها وهي في ذلك تتصرف بوضوح رؤية، فقد ظلت تدعم منذ وقت طويل حركة جنوب السودان، ودعنا نتكلم بصريح العبارة، ولسنا نتكلم عن تكهنات، فهناك كتب موجودة تتحدث عن التعاون، وهذا الدعم من منطلق مصالح إستراتيجية واضحة جداً، جزء منها سياسي والآخر عقدي وغيره اقتصادي.. فإسرائيل تتحدث عن السوق الإفريقي الواسع صاحب الموارد الإستراتيجية وتتحدث عن أنها بإمكانها أن تطبق النظرية اليابانية ولكنها تحتاج إلى القوى الشرائية الإفريقية وما إلى ذلك، لذلك يعتقدون أن جنوب السودان هو البوابة لهذا السوق بالإضافة إلى تحقيق أهدافهم بالسيطرة على مصادر المياه. فوجودهم هنا يأتي عن وضوح رؤية. في ظل تعاطي دولة الجنوب مع الإستراتيجيات الغربية المناوئة للحكومة يرى البعض إمكانية حدوث عدة سيناريوهات بشأن العلاقة بين البلدين مثل العودة للحرب أو تقسيم السودان الشمالي إلى دويلات أو انهيار حكومة الشمال.. فماذا ترى أنت؟ أؤكد أننا نتأثر بالوضع في الجنوب واستقرار الحكم في الجنوب يتعلق بإمكانية قيام حكم رشيد يعالج قضايا القبلية في الجنوب، فسيطرة الدينكا تهدد استقرار الجنوب إذا لم تحل هذه المشكلة، والآن نشهد تفلتات أمنية وهناك صراعات والحديث عن الفساد قد كثر ولا توجد رؤية إستراتيجية واضحة في جنوب السودان، ولكن لا بد من أن ننتبه إلى تحول الحركة إلى العمل السياسي الذي يحتاج إلى زمن طويل وإلى أن ينضج ستظل هناك أجندة أجنبية تستطيع أن تخترق الإرادة الجنوبية بسهولة أكثر من الشمال صاحب الخبرات الأكثر ولكنه لن يسلم حتمًا حيال اختراق الجنوب بمثل هذه الأجندة الأجنبية وستؤثر حتمًا على الشمال. المناطق الثلاث هي محور لأنها ضمن أجندة أخرى هي محور لانفصال الجنوب، ولذلك فإن إسقاط الحكومة في الشمال ليس نابعًا من فراغ وإنما هو رؤية غربية أجنبية تتحدث عن سودان موحد علماني، وهذا هو المخطط وليس بانفصال الجنوب انتهت المعركة معهم، فدارفور الآن دخلت الصراع كما أن المخطط هو أن ينفصل النيل الأزرق وجنوب كردفان، هذا هو المخطط الغربي منذ زمن بعيد وظلوا يعملون له، والنتيجة الآن انتهى الملف الأول وسوف تفتح الملفات الثلاثة الأخرى، لكن العمل في الملفات الثلاثة هناك رؤية ستطبق في الشمال وهي العمل عن طريق «الخصوبة» والتزايد السكاني بالمزواجة المستمرة والتوالد يحصل الغلبة والسيطرة وتبعًا لذلك سيصبح السودان موحدًا ليس بالسودان الإسلامي الذي نعيشه الآن، لذلك المشكلة ستستمر وهي ليست إسقاط الشمال وإنما إعادة هيكلته بشكل جديد كما أعلنت ذلك سوزان رايس في أكثر من محفل. كيف يمكن مواجهة هذا الموقف في ظل عدم وضوح الرؤية السائد الآن؟ بالطبع هذا الموقف لا يجب أن تواجهه الحكومة وحدها وإنما تواجهه دولة، مجتمعًا وأحزابًا سياسية برؤية موحدة فالدولة أعلى من الكل.. فالصراع الممعن الآن في كل المناطق المأزومة ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان جزء من ذلك السيناريو الهادف إلى تفتيت السودان والأجندة حتمًا ستكون مستمرة ومن العبث أن يكون هناك حوار مستمر بين الدينكا والمسيرية كما يحدث في أبيي، فالقضية حسب رأيي ليست هي في الدينكا أو المسيرية وإنما أصحاب الأجندة أرادوا ذلك وقد انصعنا لهم فالبعد المفقود ليس في القضايا الداخلية لأننا قادرون إذا تُركنا لوحدنا على تجاوزها، وأكبر دليل على هذه الأجندة خطوة مالك عقار في النيل الأزرق فهو مرغم عليها. أما زلت ترى أن الخطر قادم على السودان من خلال الصراع الدائر الآن؟ نحن الآن نبذل جهودًا ولا بد من أن نتصرف تكتيكياً على المستوى المرحلي، ولكن ما ينقصنا هو التصرف على المستوى الإستراتيجي، فالغربيون بوضوح لديهم رؤية شاملة تغطي السودان كله، وماذا يريدون منه، لذلك يُكثرون من فتح «المسارح» كالجنوب ودارفور والنيل الأزرق وغيره فهي تتحرك من مسرح إلى آخر بإتقان وإن اختلفت المراحل التكتيكية، ولذلك لا بد من أن نكون جاهزين وما حنحرز نجاحًا في مواجهة الإستراتيجيات الأخرى دون أن يكون لنا تكتيك. إذاً ما هو السند المطلوب من الداخل لتعزيز الواقع؟ أعتقد أننا نحتاج إلى التوافق حول قضايا الدولة في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهذا يشمل حتى الهيكل الإداري، شكل نظام الحكم، ثم تأسيس دستور مجمع عليه ومتفق حوله ويأتي على خلفية المصالح الإسترتيجية ويسعى إلى تطبيق العدالة والتنمية الاجتماعية وغير ذلك من الشعارات التي تُرفع الآن حتى ندخل إلى مرحلة جديدة، فنحن نحتاج إلى إعادة هيكلة السودان بإرادتنا الوطنية ولا يجب أن نتيح الفرصة للآخرين ليعيدوا هيكلته بإرادتهم وفقًا للأجندة الأجنبية وهم يسعون لذلك منذ سنين ونحن نحتاج إلى تأسيس سياسي جديد على الحاكم والمعارض سلوك يعني الدولة لا سواها. وبرأيك هل يمكن حدوث هذا في ظل عدم الاعتراف بالآخر السائد في الساحة السياسية؟ لابد من أن نلتقي حول الدولة! يعني إذا الناس اختلفوا حول الحكومة مثل ماهو سائد الآن فهذا ليس تهديداً القضية الأساسية هي الاتفاق على القضية السودانية حول مرتكزاتنا وذاتنا وغير ذلك، وقد نتعثر في ذلك ولكننا نحتاج إلى تأسيس هذه الثقافة ولابد من أن نبدأ الآن. كيف تنظر إلى الربيع العربي وأثره على السودان؟ أولاً أنا لا أتفق مع من يقول إن الربيع العربي صنيعة وقد حضرت كثيرًا من الحوارات الجادة في المحافل العلمية المهمة في الولاياتالمتحدة بصفة خاصة وتحدثوا عن الفشل الأمريكي في أنه لم يستطع قراءة هذا الواقع وقد اعتمد على أنظمة حكومية غير مرتبطة بالقواعد الشعبية وقد ظهر جيل جديد واعٍ ومتعلم وله تطلعات ويرى ما يجري في العالم من ديمقراطيات وغيرذلك، ووجد نفسه محكومًا بأنظمة غير مرتبطة به، ولذلك ثار هذا الجيل على حكامه وأسقطهم رغم ما حدث من تنمية اقتصادية في بعض منها إلا أنه قد أُهملت التنمية السياسية التي كانت من الأهمية بمكان. ما هو الفكر للمرحلة القادمة وكيف نتعامل مع هذه التعقيدات من حولنا خاصة وأن هناك واقعًا سياسيًا جديدًا قد فرض نفسه؟ المرحلة القادمة ستكون مرحلة معقدة جداً.. على المدى الإسترتيجي الفرصة سانحة لتتشكل أنظمة تقوم على أسس راسخة مرتبطة بقواعدها لأن الناس واعون بما يجري، ونظام ديكتاتوري يتحكم في الشعوب لن يكون متاحًا وإلى ذلك الحين ستكون هناك أحوال مرتبكة جدًا فيما حولنا من الدول وسيكون تأثيرها علينا كبيرًا إلى أن تستقر تلك المناطق والأمر يحتاج منا إلى مواكبة.