كما أشرنا أمس فقد برز التأثير الإثيوبي على الشأن السوداني بشكل شديد الوضوح، من حيث ما ينطوي عليه وما يشير إليه في المنحى والمعنى السياسي والإستراتيجي، عندما تولى السلطة في الجارة الشقيقة إثيوبيا عام 1974 نظام حكم ثوري يساري وصل إلى سدة ذلك الموقع والمنصب بانقلاب عسكري قادته آنذاك مجموعة من الضباط في القوات الإثيوبية المسلحة، ثم برز بينها وسيطر عليها بهيمنة منفردة ومستبدة فيما بعد الرئيس الإثيوبي السابق أو ربما الهارب منقستو هايلي ماريام... ففي تلك الفترة وبينما كان النظام العسكري الثاني للحكم الوطني في السودان بقيادة الزعيم الراحل المرحوم جعفر نميري قد نجح بمؤازرة من النظام الإمبراطوري السابق في الجارة إثيوبيا بزعامة الإمبراطور الإثيوبي الراحل هيلا سلاسي هايلي ماريام، في إبرام اتفاقية سلام أديس أبابا لعام 1972 بين شمال وجنوب السودان، سعى النظام العسكري الثوري الذي استولى على سدة مقاليد الحكم في أديس أبابا، وقام بإنهاء النظام الإمبراطوري السابق والقضاء عليه، وأظهر الولاء للمعسكر الإشتراكي الدولي بزعامة الاتحاد السوفيتي السابق آنذاك، سعى إلى انتهاج توجهات مغايرة في العلاقة مع السودان الذي كان نظام الحكم العسكري الثاني فيه قد انخرط من جانبه في إقامة علاقة ولاء تابعة وخاضعة للمعسكر الرأسمالي الدولي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية. ونتيجة لتلك التوجهات الجديدة والمغايرة من جانب الجارة اثيوبيا في العلاقة مع السودان آنذاك، فقد تحول الموقف الإثيوبي من توجهه الداعم لاتفاقية أديس أبابا العام 1972 للسلام في السودان، إلى موقف داعم للتحركات المناهضة والرافضة والمعارضة لتلك الاتفاقية من جانب بعض الجهات الفاعلة والناشطة في جنوب السودان آنذاك، وهي تحركات كانت قد بدأت سراً بقيادة الزعيم الراحل للحركة الشعبية د. جون قرنق منذ الوهلة الأولى لإبرام اتفاقية أديس أبابا عام 1972، لكنها ظلت كامنة وخافتة ولم تتطور وتتفجر في شكل أحداث ساخنة جاءت لافتة وشاخصة وماثلة إلا في الفترة اللاحقة لاستيلاء النظام العسكري الثوري على سدة مقاليد السلطة في الجارة الشقيقة إثيوبيا وبروز الهيمنة والسيطرة على الحكم هناك من جانب الرئيس الإثيوبي السابق والهارب منقستو هايلي ماريام وذلك على النحو الذي حدث في النصف الثاني من سبعينيات القرن الميلادي العشرين الماضي. وكما هو معلوم فقد تطورت العلاقة بين الحركة الشعبية التي نشطت وبرزت لمعارضة مناهضة لاتفاقية أديس أبابا للسلام في السودان بقيادة زعميها الراحل د. جون قرنق من جهة وبين النظام العسكري الإثيوبي السابق في الجارة إثيوبيا بقيادة الرئيس الإثيوبي السابق والهارب منقستو هايلي ماريام، حتى بلغت درجة صارت فيها الحركة الشعبية بمثابة أقوى جهة سودانية معارضة ومتمردة أثبتت القدرة على أن تكون مهددة بقوة شديدة الوطأة وبالغة الحدة في الخطورة بالنسبة لسلطة الوطنية المركزية الحاكمة في السودان، مثلما حدث بالفعل في أواخر حكم الزعيم الوطني الراحل جعفر نميري، ثم أثناء الفترة الانتقالية اللاحقة لذلك عقب انتقالها عام 1985، وأخيراً خلال فترة الحكم الوطني الديمقراطي المنتخب الذي تولى مقاليد السلطة خلال الفترة من 1986 وحتى الإطاحة به بانقلاب ثوري مدني وعسكري قامت به الحركة الإسلامية للنخبة السودانية الحديثة والمعاصرة عام 1989. وبينما كانت تداعيات وانعكاسات التأثير الإثيوبي الطاغي والمتواصل والمتلاحق والفاعل والمتفاعل على الشأن السوداني قد بلغت درجة صارت معها بمثابة الخطورة الأقوى والبالغة الحدة والشديدة الوطأة في تهديدها للسلطة الوطنية المركزية الحاكمة في السودان قبل العام 1989 وذلك على النحو المشار إليه أعلاه، فقد أدى وصول النظام الثوري المدني والعسكري الذي جاءت به الحركة الإسلامية للنخبة السودانية الحديثة والمعاصرة إلى سدة مقاليد الحكم إلى حدوث انقلاب ثوري وجذري قد يمكن ويجوز وصفه بأنه شامل وكامل في طبيعة العلاقة بين السودان والجارة الشقيقة إثيوبيا، حيث لم تتوان السلطة الثورية الجديدة التي استولت على سدة مقاليد الحكم في السودان بطابع إسلامي مدني وعسكري عن تقديم الدعم والمساندة السافرة ودون أدنى درجة من التردد أو المواربة في الوقوف مع القوى الثورية الإثيوبية والإريترية المسلحة التي كانت ناشطة ومنهمكة في مناهضة شرسة للنظام الإثيوبي السابق بقيادة الرئيس الهارب منقستو هايلي ماريام. وقد نجحت تلك المساندة والمؤازرة السودانية الواضحة والحاصلة على الرضى من الإدارة الحاكمة في الولاياتالمتحدةالأمريكية آنذاك في تحقيق أهدافها آنذاك ثم جرى ما جرى كما سنرى.