للمبدع الوطني الشاعر الراحل إسماعيل حسن قصيدة رائعة في المقارنة اللاذعة وذات المغزى والدلالة العميقة والبعيدة المدى في ما تنطوى عليه وتشير إليه فيما يتعلق بآثار هطول الأمطار على كل من ضاحية العمارات الراقية والغنية بأثرياء الدولة، وهي الضاحية المعروفة ب «امتداد الخرطوم اثنين»، وضاحية اليوم الشرقية والسجانة المتاخمة لها، والتي يقطنها ويعمرها الكادحون البسطاء من رعايا الدولة والعاملين فيها.. وقد قال الراحل إسماعيل حسن في تلك القصيدة الخالدة: «بين الديوم والامتداد شارع ظلط للعين يبين.. لكن في الحقيقة دا ما ظلط.. ما دي آلاف السنين.. موية المطر في الامتداد تنعش زهور الياسمين.. لكن في اليوم شن الحصل.. ما موية ماصت ليها طين!!» ويمكنني القول بأن ما ذهب إليه وعبر عنه المبدع الوطني الراحل إسماعيل حسن في هذه القصيدة الرائعة والخالدة والعميقة من حيث النظر إلى ما تنطوى عليه من دلالة وإشارة ذات مغزى، قد انطبق على ما وقفت عليه وشعرت به أثناء عطلة العيد التي أمضيتها الأسبوع الماضي في زيارة لموطن النشأة والإثراء الوجداني والثقافي والتربوي في مرتع الطفولة والصبا بمنطقة منحنى نهر النيل في محلية الدبة بالولاية الشمالية.. حيث امتزجت البهجة المنتشية بأفراح العيد والمناسبات السعيدة المرتبطة بها واختلطت مع المأساة الناجمة عن السيول والأمطار، وآثارها المدمرة في تلك المنطقة التي تضاعفت معاناتها الممتدة من جراء ذلك، وجاءت متزامنة مع آثار الانهيار الحالي للاقتصاد الزراعي التقليدي الذي يعتمد عليه الأهالي هناك. وتجدر الإشارة في سياق هذا الإطار إلى ما يتعلق بالظاهرة المؤلمة الراهنة والمتمثلة في الهبوط الشديد لأسعار محصول ثمار النخيل «البلح» التي تدنت من حوالى خمسمائة (500) جنيه كسعر أدنى لجوال البلح البركاوي في الموسم قبل الماضي، إلى ما لا يتجاوز المائة وثلاثين (130) جنيهاً فقط السعر الحالي للجوال من إنتاج الموسم الماضي الذي ما زالت الغالبية العظمى من الأهالي المنتجين له والمعتمدين عليه تحتفظ به في المنازل بأساليب تخزين بلدي يعبر عن الأمل في ارتفاع أسعاره. ولكن بدلاً من ذلك تعرض المخزون من إنتاج محصول الموسم الماضى من ثمار النخيل «البلح» لتأثير سلبي شديد الوطأة نتيجة لما أصابه جراء مياه الأمطار والسيول الغزيرة التي هطلت عليه ووصلت إليه وأفسدت كميات كبيرة منه.. فضلاً عن أنها أثرت سلباً أيضا على ثمار الموسم الحالي من محصول البلح الذي أوشك على بلوغ مرحلة حصاده المنتظرة مع حلول عيد الأضحى المقبل. ويقول الأهالي المكلومون في منطقة منحنى نهر النيل بالولاية الشمالية إن الموسم الحالي لمحصول ثمار النخيل كان أصلا أدنى كثيراً من حيث الإنتاجية المنتظرة منها مقارنة بالموسم الماضي. ووفقاً لما يدلي به الأهالي من إفادات في معرض الحسرة المحزنة والمعبرة عن الحالة المزرية والتردي الاقتصادي الساري نتيجة للانهيار الجاري في العائد النقدي لأسعار محصول البلح بصفة عامة، ونوعية البركاوي المعروفة بأنها جيدة، وكانت تحظى بأفضلية لدى عرضها في الأسواق على وجه الخصوص.. يقولون إن ما تعرضت له أسعار ثمار النخيل من انهيار يمثل ظاهرة مؤكدة للحقيقة الاقتصادية الثابتة والمتمثلة في أن الآثار السالبة الناتجة عن انفصال جنوب السودان عن الشمال، وما يجرى من دمار وحروب أهلية طاحنة وعصابات نهب مسلحة تعاني منها دارفور، ومناطق أخرى في السودان قد وصلت بالأضرار الناجمة عنها إلى بقية الأنحاء الأخرى بما فيها ولايات الشمال الأقصى التي كانت منتجاتها من المحاصيل الزراعية وخاصة ثمار النخيل بكل أنواعها تجد تصريفاً لها في أسواق الجنوب ودارفور والدول الإفريقية المجاورة.. وغداً لنا عودة أخرى للمعاناة الراهنة في ولايات شمال السودان.