عندما انطلق الحوار الوطني بالخطاب الشهير الذي ألقاه رئيس الجمهورية بقاعة الصداقة في يناير من العام الجاري كان التحفظ الأول والكبير على الحوار الوطني أن لا يفضي بحال من الأحوال إلى انقسام في الساحة السياسية السودانية بين شمال ويمين وإسلاميين وغير إسلاميين من قوى اليسار بكل أشكاله وكان كثير من المشفقين على الحوار الوطني من رأيهم أن الشروط التي أوضعها الحزب الشيوعي السوداني حتى يشارك في الحوار يجب وضعها في الحسبان والاهتمام بمسائل محددة من شاكلة تعليق أو إلغاء القوانين المقيدة للحريات وإلغاء الرقابة على الصحف وإعلان وقف إطلاق النار في مناطق العمليات وكان الخلاف حول هذه النقاط ينصب ما بين جعلها شروط مسبقة للحوار الوطني وبين بحثها من داخل الحوار عندما ينطلق لكون إبداء الشروط المسبقة من حيث المبدأ لا يصب في مصلحة الحوار الوطني. ومن المؤكد أن توقيف زعيم حزب الأمة وإمام الأنصار على خلفية تصريحاته المتعلقة بقوات الدعم السريع التابعة لجهاز الأمن الوطني والمخابرات ثم خروجه وتوقيعه مع الجبهة الثورية إعلان باريس قد زاد من الشرخ الوطني والانقسام في الساحة السياسية مما جعل الحوار الوطني بالطريقة التي رسمها المواطن العادي والمراقب المهتم بمثل هكذا حوارات تتراجع كثيرا لنعود لمربعات الحرب الكلامية والتوترات من جديد. وبداية التوتر الحقيقي من غير شك هي حادثة اعتقال السيد الصادق المهدي على خلفية تصريحاته والتي كانت موجهة للعالم الخارجي أكثر من الداخل والمراقب للساحة الإعلامية والسياسية وإعلان باريس فإن من تناولوه على المواقع الإسفيرية على وجه التحديد وهم من القوى اليسارية والعلمانية يرون في الإعلان البداية الحقيقية لإسقاط النظام وهذا الإسقاط ليس على يد الشعب السوداني وعلى طريقته التي يختارها سواءا انتفاضة شعبية أو غيرها ولكن الأمر بالنسبة لهؤلاء الكتاب هو إسقاط لحكم الأخوان المسلمين على طريقة ما حدث في مصر ومن خلال محاور إقليمية أطرافها كما قالوا في كتاباتهم ذات الدول التي دعمت ما حدث في مصر وهي دول الخليج والسعودية ومصر نفسها. بل إن من هؤلاء الكتاب من يرى أن الجبهة الثورية قد أعطت الصادق المهدي أكثر مما يستحق وهي تضعه على قمة مشروع إسقاط النظام ومن ذلك الجمهوري دكتور القراي الذي نشر مقالاً بالراكوبة بعنوان اتفاق باريس وهو يرى أن حكم الأخوان المسلمين في السودان يترنح ولا يجب للجبهة الثورية أن تجعل الصادق المهدي ينال شرف نهاية النظام لكون الصادق لا يدفع فاتورة النضال بدليل أنه ترك ابنته مريم تعتقل وآثر سلامته الشخصية، أما المحامي كمال الجزولي وهو محسوب على الحزب الشيوعي السوداني فقد برر لجوء الصادق المهدي لإعلان باريس مع الجبهة الثورية لكون الحوار قد صار مجرد إعادة للحمة الإسلاميين الذين فرقت بينهم السياسة في المؤتمر الوطني والشعبي، وهاجم المحامي فاروق أبو عيسى رئيس قوى التجمع الوطني المعارض الذي صرح بأنه لا يثق في أي عمل طرفه الصادق المهدي. ولعل ثالثة الأثافي هي ما علق به أحد قادة المعارضة على موقف المهندس الطيب مصطفى المؤيد لإعلان باريس حيث صرح أبو الحسن فرح القيادي بتحالف المعارضة بأن الطيب مصطفى إذا كان يعتقد أن إعلان باريس يمكن أن يأتي له بالجبهة الثورية تحت إمرة الحكومة فهو مخطئ وقال إن إعلان باريس ينظر لحل القضايا جميعها ويصب في رؤية البديل الديمقراطي الذي وضعته المعارضة في ميثاق الفجر الجديد الذي هاجمه الطيب مصطفى بشراسة وموقفه من إعلان باريس تكتيكي فقط. في المقابل هناك من ينظر لإعلان باريس على أنه هدنة أراد المهدي أن يوفرها للجبهة الثورية التي تلقت ضربات موجعة على يد القوات المسلحة حسبما صرح به وزير الدفاع الفريق عبد الرحيم محمد حسين لتلفزيون السودان وقال وزير الدفاع في حديثه الذي نشرته صحيفة أخبار اليوم بمناسبة العيد الستين للجيش السوداني إن إعلان باريس لا يعني القوات المسلحة واتهم الإعلان بأنه يعطي فرصة للمتمردين بتجميع صفوفهم بعد أن دحرتهم القوات المسلحة. وقال وزير الدفاع: إن الصادق لم يشاورنا في وقف إطلاق النار. ويضيف وزير الدفاع بأن القوات المسلحة تدعم مبادرة الحوار الوطني وحريصة بأن يقوم السياسيون بالتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاختراع ولا مبرر لتأجيل الانتخابات. أما رئيس تحرير صحيفة الصحافة عبد المحمود نور الدائم الكرنكي فقد كتب في زاويته عصف ذهني بالصحافة الإثنين الموافق 18 أغسطس تحت عنوان: إعلان باريس في أحمد شرفي وأحمد شرفي هي مقبرة عريقة بأم درمان ووضع صورة وكتب من تحتها: هنا يرقد إعلان باريس وتساءل: لماذا يتحالف الإمام صاحب نهج الصحوة مع التمرد العلماني ما هي القواسم العلمانية بينهم ووعد الكرنكي بأنه سيجيب على هذا السؤال مما يعني أن الطرق على إعلان باريس مستمر ومن عدة وجوه ما بين قادح يرى فيه مؤامرة على الوطن وقادح يرى في الإعلان خلاص من الإنقاذ وتخليص للبلاد من حكم الأخوان المسلمين وما يمكن أن يقول في هذا الهدف أنه بحال من الأحوال ليس من أجندة الشعب السوداني فلا الشعب السوداني ولا الشعب المصري يريد إسقاط الأخوان المسلمين ولكن من فعلوا ذلك ويريدون فعله يودون فرضه فرضاً بقوة السلاح مما يبعدهم عن الحوار ويعرض البلاد للمخاطر بدلاً من إنقاذها وتحكيم النظام الديمقراطي التعددي.