في سبعينيات القرن الماضي زار الراحل الشيخ زايد الخرطوم وبهرته مدينة مقرن النيلين. حينما عاد الشيخ زايد للإمارات العربية طلب من الجميع العمل بجهد وإخلاص حتى تصبح دبي مثل الخرطوم في نظامها ونظافتها وروعتها. بعد سنوات تطورت إمارة دبي مثلها مثل بقية الإمارات، وتدهورت الخرطوم مثلها مثل بقية الولايات. حينما نجلس لوالدنا ربنا يمتعه بالصحة والعافية نصاب بالدهشة من خرطوم زمان. وما أن تهطل الأمطار الآن نصاب أيضاً بالدهشة لسوء المصارف والأوساخ التي قد تقود الخرطوم لكارثة بيئية هذا العام. أهل الإمارات عملوا وأخلصوا والآن يتمتعون بدولة راقية وجميلة ونظيفة. وأهل الخرطوم هربوا للخارج والآن تتمتع مدينتهم بتدهور مريع في كل شيء. كل الدول تتطور وتتقدم مع مرور الزمن عدا السودان. كل العالم يتحدث عن ماضيه حتى تقشعر الأبدان من سوء الحال، والخرطوم تتحدث عن الماضي وفي القلب حسرة على مدينة كانت رائعة. في رمضان المنصرم كنت ضمن الوفد الصحفي الذي زار إثيوبيا الشقيقة. قبل دخول الأراضي الإثيوبية كنت قد رسمت صورة خيالية عن تلك الجارة من واقع الإخوة الإثيوبيين المنتشرين في السودان. وعند دخولنا لمدينة بحر دار التي تبعد حوالي ستمائة كيلو عن المتمة بدأت الدهشة تتجول وسطنا. وفي صباح كل يوم تزداد الدهشة من التنمية والإعمار الذي يسود إثيوبيا. تجولنا في الكثير من المدن الإثيوبية بدءاً من بحر دار ومنها لمدينة سد النهضة وأصوصا ونغمتي وأديس وقندر وغيرها من المدن. التنمية في كل تلك المدن إلى جانب الطرق ومترو الأنفاق والعمل الأكبر في سد الألفية. رأينا الأمطار تهطل بكثافة ولكن لم نجد مياهاً راكدة في الشوارع. إثيويبا تتقدم بقوة للأمام ونحن نتراجع للوراء ولسنا واقفين في مكاننا. قبل أسبوعين تقريباً ذهبت لإيصال أصغر أشقائي لمطار الخرطوم لاستلام عمله هناك. الساعة كانت تشير إلى الثانية صباحاً والمطار مزدحم جداً بالمغادرين للسودان. قابلت عدداً من الشباب الذين تربطنا بهم علاقة اجتماعية وجميعهم من حاملي الشهادات الجامعية ولكنهم راحلين عن السودان للغربة. وكذلك شقيقي الذي تخرج من هندسة النفط قبل خمسة أعوام وضاقت به الديار ليختار قسراً الهجرة للملكة العربية السعودية في وظيفة لا تحتاج لشهادة نفطه. والأسبوع الماضي أيضاً ودعت شقيقي الأكبر بشهادته المحاسبية وبرفقته زوجته الأستاذة الجامعية ونفس المناظر والشبه للمهاجرين الشباب في مطار الخرطوم. يومياً يهاجر الشباب وأصحاب الكفاءات ليتراجع السودان خطوات للوراء. أخشي أن يأتي يوم لا تجد الدولة شبابها وكفاءاتها المخلصين وهم يعمرون ويبنون الدولة القوية.