حين أنزل الله تعالى أول ما نزل من القرآن الكريم الكتاب الهادي خير كتاب أُنزل للناس.. تحدَّثت أول آياته عن قضايا أساسية مثلت جماع المنهج الرباني الذي يراد للإنسان إدراكه والسير على منواله والدعوة إليه في همة ودأب ورضى. من أولى هذه القضايا الدعوة الصريحة إلى معرفة كنه الله سبحانه وتعالى في أسمائه وصفاته وأفعاله وألوهيته وربوبيته «اقرأ باسم ربك الذي خلق».. والقضية الثانية لفت انتباه الإنسان إلى عظمة هذا الخالق الذي ينتهي إليه كل شيء كما هو منه كل شيء.. ويعلم بكل شيء «اقرأ وربك الأكرم».. والقضية الثالثة لفت نظر الإنسان إلى الوسيلة التي عن طريقها تتم عملية القراءة والتأمل والنظر والتدبر والتفكر واستلهام الأشياء وفحصها «الذي علم بالقلم».. جاءت القضية الرابعة التي سندت علم الأشياء في نشأتها وكنه ذاتها وأسرار خلقها إلى الله بجانب علم الغيب الذي لا يطلع عليه إلاّ الله ومن رضي الله له بذلك في نطاق محدود من الوحي والإلهام والأمر النبوة وهي صفة اختص بها الأنبياء والمرسلون. ومن هنا يبقى الإنسان عاجزًا عن إدراك الأشياء حتى يعلمه الله ما لا يعلم «علم الإنسان ما لم يعلم».. ثم جاءت الآية العظيمة من سورة الإسراء لتضع حداً فاصلاً قاطعاً يؤكد أن القرآن جاء ليعالج كل معضلات الحياة الإنسانية.. وما من شاردة ولا واردة إلاّ أحصاها وأحاط بها علماً، وأنه منهج ثابت للإصلاح قال تعالى: «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً» فهو إذن يهدي للتي هي أقوم يعني أفضل وأحسن وأوسط وأعدل في العقيدة والأخلاق والسلوك والعبادة والمعاملة وفي الأحوال النفسية والتربوية والاجتماعية والأسرية والاقتصادية والسياسية والعلاقات والاتصال.. والولاءات والبراءات والانتماء والتوجه والسير والحكم والقول والفعل والعتادة المختارة والعرف المستحسن والمصالح الجارية غير المتعارضة مع النصوص والإجماع والقياس. وإذا كان بهذه الموجهات جاء الإسلام من خلال كتابه القرآن وكذلك فعل دعت الحاجة والضرورة إلى اتخاذه منهجاً للحياة سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية. وهنا نريد أن نعتب على بعض الدعاة والعلماء وطلاب العلم الشرعي الذين صدقوا وهماً وتوهماً أن الدعوة إلى الله ومنهج إصلاح الناس والمجتمع لا علاقة له بالسياسة من ثم كأنما هم يصوِّرون للناس وللناشئة من بعدهم أن من يتصدى لأمر الدعوة إلى الله عليه أن يبتعد عن حبال السياسة إن السياسة ما هي إلاّ نفاق محض، من دخل سوقها مرد على النفاق هكذا تصدر الدعوة والحكم على السياسة في صورة يلقي فيها الكلام مطلقاً على عواهنه دون قيد أو شرط أو احتراز أو استدراك!! ولكن الحق ليس الأمر كذلك وذلك لأن السياسة ما هي إلاّ تدبير شؤون الحياة وحسن إدارتها وابتكار الوسائل الناجعة للوصول إلى الغاية من خلال منهج مرسوم موسوم.. أو هي إدارة العلاقات الإنسانية بفن مقروناً بقراءة الحال.. لكن يبدو أن الحلقة المفقودة ههنا في المفهوم العام للسياسة أن وجه الاعتراض ينبغي أن يتوجه إلى سلوك وفعل السياسي ومدى التزامه بالمنهج وأخلاقه وليس السياسة ذاتها لعلم أو فن أو سميها بما شئت. نريد من هذه الفكرة أن نمشي نحو أهمية إقرار أن السياسة من الدين، ونعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ساس حياة الصحابة في عهد النبوة دينًا ودنيا فحكم وقضى وعلم ومشى في مجالس الصلح وقاد الغزوات وفصل في النزاعات وعقد الأنكحة وقيد قوانين الاقتصاد فمشى في الأسواق وباع واشترى واستدان وراهن واحترف التجارة أول أمره قبل النبوة.. وهذا كله لا يتأتى إلاّ بعصف الذهن والتفكير واقتراح الحلول ومنع وقوع الأزمات وما السياسة إلاّ هذه. ثم ثمة صنف آخر من السياسيين الشيوعيين والعلمانيين يبخس الإسلام في نظامه الاقتصادي بدعوى أن الإسلام يخلو من ذلك أو ليست هناك نظرية واضحة المعالم فيه وإنما هي إشارات.. أقول تعامى هؤلاء القوم عن نصوص القرآن فأعمى الله بصائرهم وجعل وقراً في آذانهم فهم لا يعلمون.. والعلم نور للبصر والبصيرة ونور الله لا يعطى لشيوعي ملحد أو فاسق فاجر يستهزأ بالقرآن والسنة والحجة عليهم أنهم جهلة وجاهل الشيء لا يعطيه. وصنف آخر أيضاً من السياسيين أخذوا من الإسلام إشارته دون لبه ومن أحكامه فروعها دون أصولها.. ومن سماته نوارها فلا ثمارها فكانت الرؤية لديهم غبشًا وغير مكتملة وهم الذين جلبوا الاتهام إلى منهاج الإسلام في باب السياسة فنشط أعداؤه تحت مصطلح الإسلام السياسي فقامت الشائنة على الإسلام هي حملة جائرة لا تسندها مبررات موضوعية بقدر ما هي روح تشفى من الساسة الإسلاميين على حساب الإسلام لمنهج ودليل وتلك صورة أوهمت غير المسلمين أن الإسلام كذلك وهو ليس كذلك. وهو سلم أيضاً صعد عليه طالبو الجاه والمال والسلطان الذين لا يمكن لهم التمكن من مراميها إلا لو أنهم استرضوا أعداء الإسلام بالهجوم على نهجه فكانت شعارات الدولة العلمانية وفصل الدين عن الدولة وغيرها ومن بقيت فيهم بقية حياء قالوا نريد دولة مدنية لا دولة دينية فهذا مصطلح عربي مستورد من الغرب الذي عانى بما عرف بالصراع بين الكنيسة والدولة في القرون الوسطى يوم كانت أوربا ظلاماً ضل سالكه.. ما عرف أيضاً باللاهوت الكهنوت وتلك أحوال الإسلام منه برء.. فالدولة الإسلامية في الإسلام لا تقوم إلاه بالدين والوالي أو الحاكم أو الخليفة فيها أو الإمام لا يختار إلاّ بشروط الدين الإسلام والذكورة والفقه والورع والعدل والبلوغ والاستقامة والعلم فهل هذه يمكن فصلها عن شروط أهلية الإمام أو الوالي وقد أقر الدين؟. ولكن لما اختل ميزان الاختيار للحكام وفق هذه المعايير جاءت الجريدة على الإسلام منهجاً واتباعاً من قبل أعدائه فليعلم.. لكن الساسة اليوم الذي جعلهم كذلك أي في وهم وغياب رؤية هو ضعف الالتزام بالدين الذي من أسباب ضعف التربية الإسلامية وضعف محصلة تزكية النفس وضعف الحضور القيمي والاجتماع في قاموس هؤلاء الساسة..