في العهد المايوي كانت تمر ذكرى ثورة أكتوبر دون احتفال أو تقديم أناشيد أكتوبر الشهيرة، باعتبار أن النظام انقلب على حكومة ما بعد الثورة، بيد أن الاتحاد الاشتراكي كان يصدر بياناً مقتضباً سنوياً في ذكرى الثورة يشير فيه دوماً إلى أنها لم تحقق مضامينها بسبب الأحزاب الطائفية والممارسات السياسية السالبة، أي أن الثورة الجماهيرية سرقت، لكن مايو هي التي ستحقق آمال وتطلعات الشعب في الحرية المسؤولة والكرامة، وبالطبع لم يحقق نظام مايو الحريات الكبيرة التي بسطتها حكومات أكتوبر، وإن كان يحمد لمايو عدم سلبها لسيادة القضاء بشكل كبير عدا المحاكمات العسكرية التي أقامتها للذين قاموا بحركات عسكرية انقلابية ضدها. وعندما قامت الإنقاذ في العام 1989 لم ترحب في خطابها السياسي بثورة أكتوبر، رغم أن رموزها بل عرَّابها د. الترابي كان أحد المتسببين في شرارتها التي تحولت إلى ثورة عارمة في أقل من شهر بعد الندوة السياسية الشهيرة التي تحدث فيها بجامعة الخرطوم عن قضية الجنوب ونقده للنظام الفريق عبود، إضافة إلى دور رئيس اتحاد الطلاب المنتمي لحركة الإخوان المسلمين آنذاك «الحركة الإسلامية حالياً» ربيع حسن أحمد، ولعل عدم الاحتفاء والاستلطاف من جانب الإنقاذ تجاه أكتوبر يعود إلى ماكنيزم الثورات الجماهيرية التي تتكئ على الانتفاضة وهز الأنظمة وتعريض عروشها للسقوط، وهي أدبيات بالطبع غير محببة للأنظمة ولا تريد تكريسها في العقل الجمعي للجماهير. ربما لهذا السبب، فإن عدداً من النخب بعضهم من الإسلاميين وآخرين من عشاق الحكم القابض يتهمون ثورة أكتوبر بأنها جاءت عبر مؤامرة كنسية، بالرغم من تلقائية الثورة وعنفوانها الساخن الذي انتظم كل الولايات دون تخطيط مسبق. وحجتهم أن نظام الفريق عبود أوقف المبشرين المسيحيين في الجنوب ولهذا فإن الكنائس أصبحت لها مصلحة في سقوط نظام الفريق عبود وهذه صحيحة من الناحية النظرية، لكن كيف حولت الكنائس هذا العداء إلى مشروع عملي للإطاحة بنظام عبود عبر ثورة أكتوبر؟ وتلك هي ما نختلف معهم فيه، وهم في ذلك يستندون إلى أن التحقيقات أثبتت أن الطلقات النارية الفارغة لم تكن تتبع للشرطة، وبالتالي فإن من أطلق النار على القرشي وبقية صحبه هو جهة لها مصلحة في حدوث غبن جماهيري يتحول إلى بركان لإسقاط نظام الفريق عبود، لكن هذا الزعم لا يقوى على الصمود أمام ضوء المنطق والحقائق على الأرض في ذلك الوقت، ذلك لأن شهود العيان لثورة أكتوبر جلهم ما زالوا أحياء ومعظمهم أشاروا إلى أن الشرطة آنذاك هي من أطلقت النار على المتظاهرين ربما بعد أن حاصرها الطلاب بالحجارة وغيرها داخل الحرم الجامعي، ولذلك كيف يمكن أن يسقط المحلل المنصف شهادات حية ويثق ويتشبث بتحقيقات أجراها نظام هو جزء من الذي حدث، فهل يعقل أن يدين نظام عبود نفسه ويعترف بأنه تسبب في مقتل عدد من الطلاب وجرحهم ؟ أما إذا كانت للكنائس في السودان ذلك التأثير الكبير والمفصلي على ثورة شعبية خرج فيها آلاف المواطنين باختلاف طبقاتهم الاجتماعية وثقافاتهم وتباينهم العرقي، فلماذا لم تستطع أن تنجح في تنصير على الأقل مئات منهم إذا كانت تمتلك هذا التأثير. ولا شك أنه من المستساق أن يتحدث أي محلل أو مؤرخ عن الإخفاقات السياسية لحقبة ما بعد ثورة أكتوبر، لكن ليس من المنطق أن يشطب ثورة جماهيرية حفرت اسمها في التاريخ بدمغها أنها مجرد صناعة أجنبية، وهي بلا شك أقوال ساذجة ربما قصد بها مقاصد سياسية انتهازية، لكنها ستظل مجرد فقاعة سرعان ما تزول على بساط الحقيقة.