استمعت إلى العلماني الضال المضلل، المدعو طه إبراهيم جربوع، وهو يجادل شيخنا أمين حسن عمر في برنامج تلفازي. وعجبت كيف صبر أمين، الذي أعلم قدر استيائه من الفساد الفكري، من فساد ما أفضى به المنطق المنكوس المبخوس الذي يتعامل به جربوع. فربما راضت ظروف الزمان أمينًا وحملته على تجشم الصبر الجميل. فقد ابتُلي المسكين وحملته الأيام ضد طباعه عندما أوكلت إليه أن يجادل ويحاور المتطرفين من كل نوع لاسيما المتطرفين السياسيين والعنصريين. وهم بلا شك أخطر من المتطرفين الفكريين. وإن كان التطرف الفكري هو أصل الضلال والإضلال. وعندما استمعت إلى جربوع وهو يردد ما كان يقول قبل ثلث قرن بلا احتياط أو تدبر، أدركت أنه ما زال، رغم علوه في السن، يُمعن في الضلال البعيد. ويجتر اتهاماته القديمة للشريعة الإسلامية بعدم صلاحيتها للحكم، وعدم احتوائها أصلاً على نظام للحكم الرشيد. ويدّعي بعلمانية عامية فظيعة، وجهل أفظع، أن النظام الزمني العلماني أصلح للناس من التشبث بنظام إسلامي للحكم! وشكر الله تعالى أمينًا على صبره في الاستماع لتبجح هذا الجهول، الذي لا يعرف شيئًا في الفلسفة، ولا في القانون، ولا في علم ساس يسوس. ومع ذلك ينصب من نفسه مفكرًا وكاتبًا وداعية لنهج يريد أن يجدِّد به مناهج تفكير المسلمين! وأن يقطع الطريق على الخطاب الإسلامي العلمي، الذي أبرز درجة عالية من النضج، بجانب قيمته الدعوية، وحاز على قبول المسلمين على امتداد أقطارهم، وأجاب عن أسئلتهم الملحة.. وعمل على تقديم بدائل شرعية لأساليب الحياة التي لا يقرها الإسلام. من هو جربوع؟ وجربوع واحد من قدامى اليساريين العلمانيين المعادين للإسلام والمتأثرين بمنهج عدو الإسلام الضال المضل محمود محمد طه.. وهو أحد التغريبيين الذين اجترحوا محاولات جريئة للاعتراض على الإسلام.. وانتحلوا لأنفسهم لافتات جديدة هي لافتات «التنوير»، واقتفوا خططًا مريبة لاقتحام معاقل الإسلام، والبروز من داخله في صورة مفكرين إسلاميين يزعمون الغيرة على هذا الدين. ويتزعمون الدعوة إليه ولكن بعد أن يُفرغوه من مضامينه التشريعية، ويقدموه في إطار فكري فضفاض، يقبل أن يضاف إليه أي شيء يرد في خواطر هؤلاء التغريبيين التنويريين، الذين يريدون أن يفعلوا بالإسلام ما فعل النصارى بميراث السيد المسيح عليه السلام! وما فتئ جربوع يُجهد نفسه في مكافحة الشريعة الإسلامية التي ينظر إليها على أنها من مواريث التخلف. احتكار الفهم وكان قد أصدر كتابًا بعنوان «هذا .. أو التخلف» أراد أن يفرض علينا فهمه «التقدمي» للإسلام، بدعوى أن ما سواه هو التخلف، حيث اتهم عموم المفكرين المسلمين المعاصرين، بالعجز عن طرح الفكر العربي الإسلامي، كنظرية تصلح لحل مشكلة التخلف والتنمية. وقال إنه عندما وصفهم بالعجز فإنه إنما تساهل معهم ليعطيهم حق الاستفادة من حسن النية المفترضة، ذلك أن الكثيرين منهم ليسوا كذلك! تُرى ما هو سر ذلك التخلف يا ترى عند المفكرين الإسلاميين؟! وما هو ذلك الطرح التقدمي الذي انفرد به الأستاذ جربوع، عندما حشر أنفه في شؤون الدين، واحتكر تفسيره، ليضيف لنفسه مجداً آخر بعد المجد «الباذخ» الذي طارت به شهرته فيما مضى؟! إن المرء ليحتاج إلى ضبط أعصاب حقيقي وهو يطالع أفكار جربوع، التي يريد أن يسبغها على الإسلام. يقول الأستاذ جربوع:« إن خطورة دعوة صلاحية النصوص لكل زمان ومكان، تأتي من أن المسلم سرعان ما يتكشف أمامه أن كثيراً من النصوص القطعية السند والدلالة، لم تعد صالحة لهذا الزمان، أو لمكان معين، في مجتمع معين. وإذن فإن بعض القرآن والحديث الصحيح، ليس صالحاً لكل الآزمنة والأمكنة».. هذا هو ما وصل إليه اكتشاف جربوع، بعد أن عرف بعض القضايا الدينية، عن السند، والدلالات القطعية، والظنية. هذه القضايا ليست عصية وما هي قضايا هذا العصر أو المصر التي تستعصي على نصوص الدين؟! يقول جربوع: إن المرء: «يدخل المنزل، وتأتي بنت خاله أو عمه أو بنت الجيران البالغة، وتطلب هذه أن يذاكر لها، أو يشرح لها درساً، وهي خلوة في المنزل»! هذا هو أحد الأمثلة التي أوردها جربوع في كتابه. وبغض النظر عن الخطأ اللغوي في عبارة «يذاكر لها»، أو الخطأ الفقهي في فهم معنى «الخلوة»، بغض النظر عن كل ذلك، فما قيمة هذا المثال كله حتى يسخره الأستاذ جربوع لضرب نصوص الدين؟! ليس من المستساغ منطقياً ولا منهجياً، أن يرفع المرء دعوى كلية هائلة، تستهدف ضرب الدين من الجذور، ثم يأتي لتدعيمها بمثال فرعي مفترض تافه.. إن هذا المثال الذي ضربه جربوع يشير إلى ممارسة لا ضرورة لها، فليس من الضروري الحتمي، الذي لا مندوحة عنه ولا مهرب منه في الحياة، أن يجلس المرء مع الفتاة الأجنبية عنه، ليساعدها في مراجعة دروسها. إن هذه الفتاة في غالب أحوالها، هي في غنىً عن ذلك، بما يتيسر لها من مصادر عون أخرى، لا شبهة فيها، ولا غبار عليها.. فهذه ليست حاجة تبلغ حد الضرورة القصوى، التي تقضي بتعطيل نصوص الدين، دع عنك القول بنسخها أو تقادمها، أو عدم صلاحيتها للزمان والمكان! ودعنا ننظر إلى أمثلة أخرى. يقول جربوع: إن المسلم المثقف «لا بد أن يلحظ التناقض الظاهر بين ما تقرره هذه النصوص التي من المفترض أنها صالحة لهذه الحضارة، وبين ما هو مدون في مواثيق هذه الحضارة عن حقوق الإنسان. فالرق في النصوص مباح ومنظم، والجهاد أصل لا يسقط، والقومية مرفوضة، والمرأة نصف الرجل ». وحشد جربوع أمثلة أخرى كثيرة، لإثبات الرجعية والتخلف لنصوص الإسلام، بسبب من تعارضها مع مواثيق الأممالمتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان. ولم يطف بذهنه قط إمكان ورود الخطأ أو الانحراف أو التخلف في تلك المواثيق، فهي في نظره المعيار الأعلى، الذي تقاس عليه نصوص الإسلام، فإن اتفقت معه، فهي نصوص صالحة متطورة بتطور الزمان، وإلا فهي نصوص غابرة، يجب نفض غبار القرون عنها، وتحديثها بما يتناسب مع مواثيق الزمان أو إلغاؤها واقتلاعها من الأساس. الإسلام لم يدعُ إلى الرق يا جربوع ونقول للأستاذ جربوع إن نصوص الإسلام لم تدعُ قط إلى الرق، وإنما دعت عوضاً عن ذلك إلى العتق. وقد كانت مؤسسة الرق إحدى أقدم مؤسسات الحضارة الإنسانية، فلم يكن إلغاؤها، من الناحية الواقعية، ليتم إلا بالتدريج. فعمل الإسلام من ثم على تجفيف منابع الرق وموارده، وإحسان معاملة الرقيق، وعتقهم في كفارات دينية، ولم يسمح للمسلمين باسترقاق الغير إلا في حالة واحدة، حيث كان الكفار يسترقون أسرى المسلمين. ولم يكن بد من معاملتهم بالمثل إذن، لأن ذلك كان هو الأصل في التعامل الدولي إذ ذاك. وإذ زال ذلك الأصل في التعامل الدولي الحديث، فإن الإسلام لا يأمر أتباعه باسترقاق الأسرى. هذا إن كان للمسلمين أسرى من غير المسلمين أصلاً الآن! بدلاً من أن يلاحظ جربوع أن العصر الحديث اتجه نحو الإسلام، وتلقاء مُثُله وقواعده في العلاقات الدولية، فإنه يرى العكس: يرى أن على الإسلام أن يسير نحو العصر الحديث، حتى ولو انحرف العصر الحديث.