طفت إلى السطح مرة أخرى قضية حلايب بعد أن برزت في أعقاب نجاح الثورة المصرية في إطاحة نظام الرئيس السابق حسني مبارك، حيث أثيرت القضية آنذاك هنا وهناك، وبرز التساؤل والسؤال عن مصيرها بشكل واضح هنا في السودان باعتبار أن نظام حسني مبارك وضع يده عليها عنوةً على خلفية تدهور العلاقات بين البلدين، بعد حادثة محاولة اغتيال حسني مبارك. وحسب ما رشح في الإعلام على لسان قيادات «من الشرق» أن هناك ثلاثة خيارات مطروحة على مائدة الحل لقضية حلايب، وهي: جعل حلايب منطقة تكامل بين البلدين، أو إجراء استفتاء لسكان المنطقة ليختاروا الانضمام إلى أي من البلدين، أو اللجوء إلى التحكيم. ولا أدري من الذي وضع هذه الخيارات؟ ولماذا أصلاً هي ثلاثة؟ فهل هناك شك في سودانية حلايب حتى تطرح هذه الخيارات؟ إن حلايب سودانية، وبالتالي فإن على السودان أن يسعى إلى استردادها من مصر عبر التحكيم الدولي فقط ولا شئ غيره، وكفى صمتاً على ضياع هذا الحق الأصيل، ولا يتعارض الحرص على استرداد هذا الحق مع مبادئ حسن الجوار والعلاقات المتينة والأزلية بين البلدين، فالحق «ما يزعلش» كما يقول المصريون. ومصر الثورة ينبغي عليها ألا تستمر في نهج النظام السابق الذي استولى على حلايب بليل في توقيت كان السودان فيه يواجه تحديات أمنية شائكة ومعقدة، ويقاتل جيشه في جبهات عديدة، ويواجه عداءً سافراً من كل جيرانه تقريباً. مصر الثورة ينبغي أن تحفظ للسودان «جمايلو» ومبادراته العديدة تجاه مصر منذ نجاح الثورة هناك، حيث أبدى السودان كثيراً من حسن النوايا بدءاً باعترافه بالمجلس العسكري الانتقالي، وقيام الرئيس البشير بزيارة مصر باعتباره أول رئيس دولة في العالم يزور مصر بعد ثورتها، وما قدمه الرئيس من عروض سخية لمصر تصب كلها في صالح مصر، وتأكيده على متانة العلاقات بين البلدين، وسكوت السودان عن إثارة قضية حلايب مراعاةً للظرف الدقيق الذي تمر به مصر وهي في حالة «نفاس» بعد ميلاد الثورة. وإذا ما تمعنا في جوهر الخيارين الآخرين لحل قضية حلايب وهما التكامل والاستفتاء، نجدهما لا يقرِّان للسودان حقه في تبعية المنطقة لأراضيه وترابه، فخيار التكامل يهدر مبدأ سيادة السودان عليها كليةً، فهو يقترح أن تتحول المنطقة إلى منطقة تكامل بين البلدين ولكن بشرط أن تعترف مصر بسودانية حلايب ومن ثم تدار المنطقة بإدارة مشتركة بين البلدين، ويتم سحب جيشي البلدين منها وإحلالهما بقوات من الشرطة المشتركة مصرية وسودانية، وواضح أن منطق هذا الخيار مختل، ويستحيل تطبيقه على أرض الواقع ولن تقبل به مصر، وحتى إذا قبلت به فإن السودان يكون قد بصم على ضياع أراضٍ أصيلة من أراضيه وأهدر سيادته طوعاً لا كرهاً، وإعوجاج منطق هذا الخيار يتجسد في أنه يفرغ اعتراف مصر بسودانية حلايب من محتواه ومعناه، ذلك أن ذات الخيار يقوم بنسخ هذا الاعتراف وجعله كأن لم يكن، وذلك بإعطائه الحق لمصر في مشاركة السودان في إدارة جزء من ترابه وأرضه، ويرغم السودان على سحب جيشه من أرضه، وهو أمر غريب ولا يستقيم أبداً مع مفهوم السيادة ووحدة التراب الذي لا تتنازل عنه الدول مهما بلغ مستوى حُسن علاقاتها وحيوية مصالحها مع دول أخرى لأن الحق لا يتجزأ. أما خيار الاستفتاء فهناك محاذير عديدة تكتنفه، فضلاً عن كونه هو الآخر يجعل السودان يجرد جزءاً من مواطنيه من انتمائهم للدولة حين يضع أمامهم خياراً آخر «قد يترجح» للانتماء إلى دولة أخرى، فلا يكون أمامهم غير البقاء في المنطقة بانتماء جديد وهوية جديدة ليس بالضرورة أنها ستلبي طموحهم وتوجهاتهم المختلفة أو مغادرة موطنهم الأصلي إلى أماكن أخرى داخل السودان، كما أن بعد يد السودان عن المنطقة طيلة تلك الفترة منذ احتلالها لن يوفر ضمانات لتصويت أهل المنطقة أو أغلبهم لصالح السودان، خاصة أن النظام المصري السابق كان قد أعد للأمر عدته، فوزع لسكان المنطقة أوراقاً ثبوتية مصرية، وقد رأيت شخصياً إحدى هذه الأوراق في تسعينيات القرن الماضي في القاهرة مع أحد أبناء حلايب وهو سوداني مائة بالمائة، وحكي لي كثيراً عما فعلته الحكومة المصرية ممثلة في المخابرات المصرية التي تدير الأمور في حلايب، حيث تقوم بعمليات منظمة لتغيير نمط الحياة هناك ليتوافق قدر الإمكان مع نمط الحياة في مصر وطمس هوية أهالي المنطقة وإلحاقهم قسراً بمصر. وقال لي إن الحكومة المصرية تتبع سياسة الترغيب في ذلك، ولكنها أيضاً تُعمل سياسة الترهيب مع أولئك الذين لا يتعاونون معها في هذا البرنامج. لذلك فإن الخيار الواقعي الذي يعيد للسودان حقه هو خيار التحكيم الدولي الذي يجب على الحكومة أن تعد له مستنداتها ووثائقها ودفوعاتها وحججها القانونية، ولا يتعارض ذلك أبداً مع «أزلية» العلاقات مع «الشقيقة» مصر، ولا يقدح في متانتها أبداً طالما الأمر أمر حقوق، والحقيقة الواضحة كالشمس هي أن العلاقات السودانية المصرية لم تكن في السابق مبنية على أسس صحيحة تستند إلى حقائق الجغرافيا والسكان والموارد، وإنما كانت مبنية على أوهام.. أوهام القوة لدى الأنظمة المصرية السابقة، وأوهام الضعف والاستكانة من جانب الحكومات المتعاقبة في السودان. حاجة مصر أيها السادة للسودان أكبر وألح، فلدى مصر ثلاث معضلات استراتيجية لها تأثيرها المباشر على أمنها القومي إذا انفجرت جزيئاتها، وكل هذه المعضلات الثلاث حلها في السودان، المعضلة الأولى هي ضيق الرقعة الزراعية وإجهادها بالزراعة الكثيفة منذ ما قبل التاريخ، وفي السودان توجد مساحات هائلة من الأراضي البكر، والمعضلة الثانية هي قضية المياه والسودان يطفو فوق أوعية مختلفة من المياه، وتجري من تحته أنهار معظمها يتبخر في الهواء الطلق، وبه يجري النيل في رحلته إلى مصر التي هي «هبة النيل»، فمصر بدون النيل لن تقوم فيها حياة أبداً، والثالثة هي الانفجار السكاني مع ضيق الأراضي الصالحة للسكن، والسودان «يعاني» قلة السكان مقارنةً بمساحة أراضيه. نرجو أن ينتبه الإخوة في مصر إلى هذه الحقائق وقبل ذلك نحن في السودان، ونضع حداً لذلك النهج القديم في العلاقة بين البلدين. لو كنت مكان الحكومة المصرية لأعدت حلايب إلى السودان عربوناً لعلاقات جديدة ستكون حتماً في صالح مصر.