وبعد أن بسط الشيخ بكر بن عبد الله أبوزيد القول في تقصي جذور الظاهرة وتجلياتها المختلفة، اتجه نحو تقديم الوصفات العلاجية الناجعة، لثلاث فئات من الناس. أولاها: فئة الجراحين الآثمين الوالغين في سمعة وأعراض العلماء. وثانيها: فئة العلماء الذين ابتلوا بأولئك الجراحين البغاة. وثالثها: فئة العامة من المسلمين بمن فيهم أولئك الجناة من الجراحين، والمجني عليهم من العلماء. وصفات العلاج: إن محترفي التصنيف بالظن هم المفلسون الخاسرون حقا، فإفلاسهم من المحامد والقيم في هذه الحياة الدنيا هو الذي أركبهم مركب الطعن في الآخرين. وإن طعنهم في الآخرين لهو الظلم المبين والكبيرة التي تهدر حسناتهم في الآخرة: «وبحسب امرئ من الشر أن يحقِّر أخاه المسلم»، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح. وكما جاء في حديث مسلم الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناتُه قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار«. وإذا كان هذا في العامة من الناس فكيف من يشتم ويقذف العلماء والدعاة الهداة؟! لا جرم أن عقوبة هؤلاء أقسى وأنكأ بكثير ولذلك يدعو الشيخ أبو زيد إلى تشديد عقوبتهم في الدنيا أيضاً إضافة إلى الحجر على ألسنتهم: ولهذا نظائر في الشريعة كوقوع الظلم في الأشهر الحرم والرفث والفسوق والجدال في الحج وتغليظ الدية في الأنفس وفت الجراح في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وفي ذوي الرحم كما هو في مذهب الإمام الشافعي رحمه الله! وأما من رمى بالتصنيف ظلمًا فالمؤلف الفاضل يدعوهم إلى عدم الرد بالمثل بل يحضهم على الصبر والتأسي بمن هم أفضل منهم في القدر ممن طعن فيهم من قبل. فقد قال تعالى في ذلك مواسيًا رسوله صلى الله عليه وسلم: «مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ». فصلت: 43. وكم من رسول أو صحابي أو عالم إمام قتل أو ضرب أو سجن أو رشق بباطل القول فرمى جماعة من فحول العلماء بالنصب وآخرين بالتهجم وغير ذلك وهم من النحل الفاسدة براء. وقد أورد المؤلف الفاضل قصصًا كثيرة مما جرى لأولئك الأئمة مما يجلب السلوى إلى قلوب من تنتاشهم ألسنة السفهاء وأصحاب الحسد والزيغ بالظنون. عزاء لضحايا التصنيف ثم أورد المؤلف نصائحه القيمة لضحايا التصنيف من العلماء قائلاً لكل منهم: 1- استمسك بما أنت عليه الحق المبين من أنوار الوحيين الشريفين وسلوك جادة السلف الصالحين ولا يحركك تهيج المرجفين وتباين أقوالهم فيك عن موقعك فتضل. وخذ هذه الشذرة عن الحافظ ابن عبد البر، رحمه الله تعالى: قال أبو عمر: الذين رووا عن أبي حنيفة ووثقوه وأثنوا عليه أكثر من الذين تكلموا فيه. والذين تكلموا فيه من أهل الحديث أكثر ما عابوا عليه الإغراق في الرأي والقياس والإرجاء. وكان يقال: يستدل على نباهة الرجل من الماضين بتياين الناس فيه. قالوا: ألا ترى إلى علي بن أبي طالب أنه هلك فيه فتيان: محب أفرط ومبغض أفرط وقد جاء في الحديث: أنه يهلك فيه رجلان: محب مطر ومبغض مفتر. وهذه صفة أهل النباهة ومن بلغ في الدين والفضل الغاية والله أعلم. 2- لا تبتئس بما يقولون ولا تحزن بما يفعلون وخذ بوصية الله سبحانه وتعالى لعبده ونبيه نوح عليه السلام «وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ». هود: 36. ومن بعد أوصى بها يوسف، عليه السلام ، أخاه: « قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ». يوسف: 69 . 3- ولا يثنك هذا الإرجاف عن موقفك الحق وأنت داع إلى الله على بصيرة فالثبات الثبات متوكلا على مولاك، والله يتولى الصالحين. قال الله تعالى: «فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ». هود: 12. 4- ليكن في سيرتك وسريرتك من النقاء والصفاء والشفقة على الخلق ما يحملك على استيعاب الآخرين وكظم الغيظ والإعراض عن عرض من وقع فيك ولا تشغل نفسك بذكره واستعمل «العزلة الشعورية». فهذا غاية في نبل النفس وصفاء المعدن وخلق المسلم. وأنت بهذا كأنما تسفُّ الظالم الملّ. والأمور مرهونة بحقائقها أما الزبد فيذهب جفاء. حذار من التصنيف وبعد ذلك يتوجه خطاب المؤلف الفاضل للجمهرة الواسعة من الناس، لاسيما الشحيحين بدينهم المبتغين الدار الآخرة. فعلى هؤلاء وأولئك أن يراعوا أن الأصل الشرعي الأصيل هو تحريم النيل من كرامة المسلم. وأن من مقاصد التشريع حفظ العرض. وأن الأصل بناء حال المسلم على السلامة والستر، لأن اليقين لا يزيله الشك، وإنما يزال بيقين مثله. ولذلك يحذر المؤلف من ظاهرة التصنيف هذه، ومن إزجاء الاتهامات الباطلة، واستسهال الرمي بها هنا وهناك. ويوجه القارئ ألا يقرر مؤاخذة الغي إلا بعد أن تأذن له الحجة، ويقوم عنده قائم البرهان كقائم الظهيرة. لأن الله تعالى أمرنا بالتبين فقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ». الحجرات: 6 ومن تجاوز ذلك بغير حق متيقن فهو خارق حرمة الشرع بالنيل ظلمًا من عرض أخيه المسلم وهذا مفتون. ويأمر المؤلف القارئ أن يكون على جانب كريم من سمو الخلق وعلو الهمة، وألا يكون معبرًا تمرر عليه الواردات والمختلقات. وأن يلتزم الإنصاف الأدبي فلا يجحد ما للإنسان من فضل، وإذا أذنب فلا يفرح بذنبه، ولا يتخذ الوقائع العارضة منهية لحال الشخص، ولا يتخذها رصيدًا ينفق منه الجراح في الثلب والطعن. ويحذر المؤلف من الفتّانين الذين يتصيدون العثرات، وسيماهم جعل الدعاة تحت مطارق النقد، وقوارع التصنيف، موظفين لذلك الحرص على تصيد الخطأ، وحمل المحتملات على المؤاخذات، والفرح بالزلات والعثرات؛ ليمسكوا بها بالحسد، والثلب، واتخاذها ديدنًا. وسيماهم أيضًا توظيف النصوص في غير مجالها، وإخراجها في غير براقعها، لتكثير الجمع، والبحث عن الأنصار، وتغرير الناس بذلك. ويقول المؤلف إن تصنيف العالم الداعية، وهو من أهل السنة، ورميه بالنقائص ناقض من نواقض الدعوة، وإسهام في تقويض الدعوة، ونكث الثقة، وصرف الناس عن الخير، وبقدر هذا الصد، ينفتح السبيل للزائغين. وإنك قد ترى الرجل العظيم، يُشار إليه بالعلم والدين، وقد ينضاف إلى ذلك نزاله في ساحات الجهاد، وشهود سنابك الجياد، وبارقة السيوف، ويكون له بجانب ذلك هنات وهنات في توحيد العبادة، أو توحيد الأسماء والصفات، ومع هذا فترى نظراءه من أهل العلم والإيمان ممن سلم من هذه الهنات، يشهدون بفضله ويقرون بعلمه، ويدينون لفقهه، وعلو كعبه، فيعتمدون كتبه وأقواله، ولايصرفهم هذا عن هذا: وإذا بلغ الماء ُقلتين لم يحمل الخبث. ولا تمنعهم الاستفادة منه من البيان بلطف عما حصل له من عثرات، بل يبينوها، ويسألون الله أن يقيل عثرته، وأن يغفرها بجانب فضله، وفضيلته. وبهذا تعلم أن تلك البادرة الملعونة من تكفير الأئمة: النووي، وابن دقيق العيد، وابن حجر العسقلاني، رحمهم الله تعالى، أو الحطّ من أقدارهم، مبتدعة ضلال. وكل هذا من عمل الشيطان. كانت تلك هي مقتطفات من كتاب الإمام العدل الناصح بكر أبي زيد، الذي ولي القضاء فتعلم منه الإنصاف، وولج حقل العلم الشرعي فكان معيارًا للإنصاف.