كلما قرأت قصيدة شاعرنا الكبير محمد الفيتوري الدافقة بالشعور الإنساني النبيل: ٭ أيها السائق رفقاً بالخيول المُتعَبَة فقد أدمى حديد السرج لحم الرقبة فإن الدرب في ناظرة الخيل اشتبه هكذا كان يغني الموت حول العربة وهي تهوي تحت أمطار الدجى مضطربة غير أن السائق الأسود ذا الوجه النحيل جذب المعطف في يأسٍ على الوجه العليل ورمى الدرب بما يشبه أنوار الأفول ثم غنى سوطه الباكي على ظهر الخيول فتلوَّتْ.. وتهاوتْ ثم سارتْ في ذُهُول!! ٭ كلَّما قرأتُ أو سمعتُ هذه القصيدة الصغيرة العميقة، في أي مكان وزمان، قفزتْ إلى رحاب الخاطر وخرجتْ من تجمُّدها صور »بيت العربجية« الشهير بحي الوادي شرق طاحونة » تكتيك » بمدينة نيالا في سبعينيات القرن الماضي، ونحن في طفولة زاهية وشقيّة نلعب ونراقب ونقترب من ذلك البيت العجيب.. وهي صورة ظلت كلحظة مجمَّدة من الزمن تستدعي نفسها مع الفيتوري، وهنا تكمن سحرية ونضاء النص الإبداعي الذي تتكون مشاهده وتجسداته وتدبُّ فيه الحياة كأنه روح تجوب عوالم الوجود كما النور البهي، تصنع الظلال وتخترق الحجب.. «ب» البيت في وسط الحي، كل شيء فيه غامض وغريب، سور قصير منخفض، يحيط بفناء واسع عريض ممتلئ ببقايا قصب وعشب جاف وسيقان ذرة جافة وحبات من الفتريتة تختلط بالتراب هي بقايا علف الخيول، تتوسطه شجرة نيم ضخمة مهملة إلى درجة أنها بلغت أرذل العمر!! فقد تدلت أغصانها وتهدلت وتراخت إلى الأرض كالجسد المترهل الذي انطفأت فيه الحياة النابضة. في الجزء الغربي من هذا الحوش، توجد قطية عتيقة، التصقت بها راكوبة صغيرة معروشة السقف مُفتَّحة الجوانب، والقطية نفسها امتلأت بالثقوب الكبيرة التي صنعتها غنمُ الحي والكلابُ الضالة التي تجتاح بيت العربجية ساعات النهار، وقطط الليل التي لا ينقطع مواؤها حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود وينبلج الصباح.. سوى ذلك فإن الحوش الواسع كله هو عبارة عن مرابط للخيول.. المُتعَبَة التي تأتي كلَّ مساء بعد أن أدمى رقابَها حديدُ السروج.. وتلون التراب وبقايا القش الجاف وقِشر الفول السوداني الذي تعلف به الخيلُ وتحول إلى اللون الأصفر من كثرة تبوُّل الأحصنة عليه. ولم يكن بالحوش والبيت الكبير شيء آخر إلا مرحاض بلدي في ركن قصيّ مزروب بمصفوفة من القصب الداكن سدت جوانبه بخرق من جولات الخيش المغبرة، ونبتت بجانبه شجرة «عُشر» صغيرة باهتة الإخضرار. «ت» أكثر الصور صدقاً عن محتويات البيت، كانت تصلنا من صديقنا «أحمد آدم محمد»، وهو طفلٌ صغير يتسوَّر سور منزلهم الملاصق لبيت العربجية من الناحية الجنوبية الغربية، ويأتينا بأخبار البيت وأقاصيصه وزواياه حتى بقايا طعام البارحة وأوانيه الملقاة في وسط الحوش، بين «العناقريب» المتناثرة، والملابس التي نُشرت على حبل غسيل سميك أغلظ من سياط الجلادين.. ولربما كان يحكي عن حصان مريض تركوه في ساعات النهار وحيداً يرقد تارةً ويئن أخرى وينهض ثم يسأم فيسقط تارةً في سخط على الأرض المليئة بالبعر والقش الذي لوَّثته أبوال الجياد المُرهَقَة. ونحن نلعب كلَّ يوم كرة الشراب، أمام البيت، هرباً من زعيق أهل الحي من إزعاجنا لهم، فنلهو أمام هذا البيت الذي يأوي إليه أصحابُه بعد المغيب ويغادرونه مع بزوغ الشمس.. لا أحد يعاتبُنا ولا صوت يؤنِّبُنا ولا أحد يفك اشتباكاتنا المتواصلة، ولربما أيضاً تسعف ذاكرة الأخ عبد الماجد هارون مدير الإدارة السياسية والأخبار بالفضائية السودانية في استدعاء تفاصيل تلك الأيام عندما كان طفلاً غريراً يحب لعب كرة الشراب، ويستعجب لشجاراتنا التي تنشأ لغير ما سبب، ويغني معنا أغاني فليم جانوار درة السينما الهندية. «ث» السؤال من أين جاء «هؤلاء العربجية..؟» لم يكن هذا السؤال يؤرق أحداً يوماً في الحي، ولا تساءل أحد من أهل المدينة عن جذورهم وانتماءاتهم ومشاربهم القبلية والجهوية؟ الكل كان ينظر إليهم بوصفهم جزءاً من المصهر الاجتماعي الكبير الذي تتسم به المدينة، وعنصراً مهماً في كيمياء الحياة، يتفاعلون وينفعلون.. لكن عقولنا نحن الصغيرة كانت تنظر في دهشة، لأولاد البحر القادمين من دار صباح، الذين يعملون في عربات الكارو.. ويقدمون خدمة لمدينة هي الأغنى بين مدن السودان والضاجة بحركة تجارية مذهلة في ذلك الوقت، فضلاً عن كون عربات الكارو كانت وسيلة نقل ومواصلات لا غنى عنها في ذلك الزمن الجميل. ورغم ذلك كنّا نشاهد شباباً طيبين يأتون بالقطار من ديار بعيدة ويحتويهم بيت «العربجية»، ثم نشاهدهم بعد أيام يزاولون المهنة ويغنون الدوبيت وسط بكاء سياطهم على ظهور الخيول.. والمعزوفة ذات الأشجان كانت للفيتوري أيضاً: أمس جئت غريباً وأمس مضيت غريباً هأنت ذا حيث أنت تأتي غريباً تحدِّق فيك وجوه الدخان وتدنو قليلاً وتنأى قليلاً وتجمُد في فجوات القناع يداك وتسأل طاحونة الريح عنك كأنك لم تك يوماً هناك كأن لم تكن قط يوماً هناك «ج» كان بيت العربجية، هادئاً في الليل، لم يكن بيت سفه، هدوء لا صوت فيه، إلا عندما يبلغ الشجن مداه بأحدهم وهو تحت وطأة الرهق، يحنُّ لأهله في الجزيرة أو البطانة أو أي صقع آخر، فيشق صدر الليل، بغناء حزين ودوبيت تمازج بالدمع، أو أطلق آهة عبرت فلوات وفجوات الفضاء الذي تتوامض أنجمُهُ كأنها تسمع الشهيق المنثور على جبة الظلام. وأحار في تلك الأزمنة، وذيّاك البريق، وتلكم الشخوص، كيف جاءت؟ وأين ذهبت؟ ولماذا تلاشى دور عربات الكارو؟ بعد أن امتلأت نيالا الآن بأحدث سيارات النقل وعربات الأجرة الحديثة والمكيفة، وغطى غبار السنين.. بيت العربجية بغموضه وبساطته وأشجانه. ولطالما استوقفنا مشهدُ الخيول.. العجاف.. التي تحولت من جياد مطهَّمة، تصلُح للنزال وصليل السيوف وهيجان المعارك وما أكثرها في دارفور.. إلى حيوانات مقهورة مروَّضة، مُهانة يُحمل فوقها البصل وصفائح الزيت والأمباز وسلع السوق الكبير ومعروضات الرمل والتراب في سوق أم دفسو!! شاهدنا كيف يُعامِل «العربجية» الخيل، والخيلُ لمن لا يعلم حيوانات شديدة الحساسية، لديها شعور حقيقي بالعظمة والشموخ والعلياء.. فقد حوّلوا الخيل وليسوا وحدهم لحيوانات تحترف حرفة لم تُخلق لها ومهنة لا تليق بعظمتها.. هكذا تظنُّ، فلذلك خيول «العربجية» التي تخترق حينا «حي الوادي» في صبحه ومسائه، كانت من ذلك النوع المقهور نفسياً، فأصابها هزال عجيب، وأمعنت في ابتكار نوع جديد من طأطأة الرؤوس.. فقد فقدت الصهيل.. وما أبشع أن ترى حصاناً لا يعرف كيف يصهل.. كأنه جنازة النسر التي عناها الشاعر السوري محمد الماغوط: أنا ألمس تجاعيد الأرض والليل أسمع رنين المركبة الذليلة والثلج يتراكم على معطفي وحواجبي فالتراب حزين.. والألم يومض كالنسر لا نجوم فوق التلال التثاؤب هو مركبتي المطهمة وأسير حزيناً في أواخر الليل «ح» لم تزل الصورة نابضة، رغم أغلفة السنوات الطوال.. لكن الجديد أن «عربجية» الخيول، قد ولت، وجاء زمان «عربجية» البشر، ولم أشهد حالة كتلك الحالة التي تحولت فيها مدينة نيالا لمرتع لناقلات جنود اليوناميد والمنظمات الأجنبية وهي تمرح داخل المدينة، وحوّلت كل بيوتها لبيوت تنضح بالمؤامرة والمكر والخبث والحرام وليالي الخمر والنساء.. كأنها تهزأ من بيت «العربجية» الذي لم تشتكِ منه بيوت الحي ولم يلعنه أحد!!