فشل الغراب في العثور على اليابسة حينما أطلقه سيدنا نوح عليه السلام ليستكشفها من على ظهر السفينة.. ونجحت الحمامة التي عادت منتصرة بغصن الزيتون. ومنذ ذلك الحين حقَّق الحمام على ظهر الأرض الكثير من المكاسب أقلها أنه اليوم ينظر له على أنه رمز السلام.. وهل هنالك أحلى من السلام؟.. وإنجاز تاريخي آخر على وجه الأرض حينما «باض» الحمام على الغار حماية لحبيب الله المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام. الحمام جدير بأن يحبّه الناس وجدير بأن يحوز على عشق الهواة ومنهم الأمدرماني السيد/ عثمان عبد المجيد علي طه أحد مشاهير أم درمان حي العرضة. التقيناه على أنغام الهديل وسجع الحمائم، فعرفنا منه أن الحمام عالم جميل وواسع.. وقبل أن نتعرَّف على عشيقاته منهن مثل: الكنج والكشكات والهنقاري والرقاص والنمسي والزاجل واليمني والشقلباظ والمالطي والروماني والقطقاطي والعنبر والشامي والبخاري وغيرهم.. أجبرننا عشيقاته الأجنبيات على التعرُّف على تاريخ دخولهن السودان بدون جواز سفر الشيء الذي جعل لأم درمان «قصب السبق» بأنها المدينة التي وطنت حمام الزينة بالسودان. يقول عثمان: ورثت هواية تربية الحمام من الوالد ومن شقيقي الأكبر بابكر والأصغر مأمون.. فكانوا حينها يربون الحمام البلدي.. وكانت بدايتي مع الحمام 1959م.. وسألت ضيفنا السيد عثمان عبد المجيد وهو تقني «باكترلوجي أغذية»، عمل بمؤسسة الصناعات الغذائية في مجال الألبان: هل لعمله علاقة.. ومن هم الذين أثروا فيه لينقل هوايته من الحمام البلدي وينتقل لحمام الزينة الواسع الجميل؟ فأجاب قائلاً: هذا ينقلنا لأن نوثق أن حمام الزينة في السودان أولاً بدأ بأم درمان.. وأنا تأثرت بالهواة الذين بدأوها إما معي أو قبلي وهم أيضاً نقلوها من الأتراك الذين جلبوا الحمام للسودان ونذكر منهم. عز الدين زروق وسيد حاج علي غندور وعوض بانقا وعلي أبو القاسم وأحمد قسم السيد وعبد المنعم عبد الكريم وآخرين معظم هؤلاء من أحياء العرضة وحي البوستة والموردة وودنوباوي وكان ذلك في الستينيات لكن الحمام يستهوينا.. ولا تبعدنا كثيراً الونسة في التاريخ على أهميتها في التمعُّن والتفكُّر في مدى استئناسه بالبشر على عكس الطيور الأخرى والصورة الماثلة تحكي فنجدِّد السؤال لعثمان عن الأنواع والقيمة والأسعار فيقول: للحمام حكايات وأوصاف وأجناس ولطائف وكل نوع يعبِّر عن نفسه.. مثلاً: الحكام الرقاص: يمتاز بأن ذيله كالشمسية أؤ كالطاؤوس.. وبالمناسبة في السودان أساساً كان هناك حمام رقاص.. ففي قديم الزمان كان يؤتى بالحمام الرقاص ليرقص وتقلده العروس يوم «قطع الرحط».. لذلك هذه الرقصة أساساً مأخوذة من الحمام الرقاص.. وسموها رقصة الحمامة. وحتى في أغانينا تجد الحمامة تشكل حضورًا وتألقًا: سافري مصحوبة عند الصباح يا حمامة واحملي شوق فؤادي ذي الجراح وأغنية الفلاتية: آه يا حمام يا زاجل.. أنا عندي ليك رسائل وأغنية أخرى: طير يا حمام بي فوق جيب لي منو خبر.. وفي المديح: غنى القمري مع الحمام ذكرني طه الإمام.. وأخرى تقول: الباض الحمام في غارو.. الواجب علينا وقارو.. إلخ. وما دام الحمام قد أمتعنا في الأفراح والمناسبات فهو أيضاً له عروض عسكرية مهرجانية. قلت لعثمان كيف؟ أجاب: تماماً كما يفعل حمام النَّشْ سألته ما معنى النَّشْ وما هو حمامه؟ أجاب: هو «الشقلباظ».. وأضاف عثمان: هو مجموعة الحمام الغزار منها الزاجل هو قائد هذه المجموعة نطلق هذه الحمائم في الفضاء فتقوم بتابلوهات فضائية شبيهة بعرض الطيران العسكري ممتعة جداً فهي تقلب دوائر للخلف ثم تواصل طيرانها والعكس، وأول من بدأ ذلك قديماً بأم درمان هم زروق وسيد وشخصي الضعيف. وأضاف عثمان: بالمناسبة أول أولمبياد كانت للحمام في مدينة بروكسل وما زالت حتى اليوم تجرى في كل عام. ثم أضاف: أنا وعز الدين زروق أدخلنا الحمام معرض الزهور عام 1965م وكان حينها في كمبوني بالخرطوم. نسألك يا عثمان عن أسعاره كيف كانت وهو كما عرفنا قد اُستُجلب معظمه من خارج السودان؟ أسعار الكنج والروماني مثلاً كانت: الجوز عشرة جنيهات.. طبعاً العشرة جنيهات كانت في ذلك الزمان كثيرة إذا قارنتها بالمرتبات آنذاك فكان متوسط الداخل خمسة عشر جنيهًا للموظف.. هذا غير تكاليف السفر لاستجلابه من مصر مثلاً. ويواصل عثمان ذكرياته مع الحمام وطرائفه قائلاً: مرة سيد غندور كان «ماشي مصر» خصيصاً يجيب حمام باع حمامو كلو للهواة.. أنا اشتريت من الحمام كمية ومنها زوج زاجل إنجليزي «كرزل» في أثناء غياب سيد رجع له الحمام الذي باعه لي.. أنا افتكرت إنو الحمام أكلو الكديس.. لمن رجع سيد من مصر سألني عن الحمام وكنت قد حزنت جداً على فقدانه فقلت له ياخ الحمام الاشتريتو منك أكلو الكديس.. ضحك سيد.. وقال لي: ياخ حمامك رجع لي تاني.. فكانت فرحتي فرحتين بعودة سيد من مصر وعودة الحمام لي. وتذكرت قبل أن أختتم الزيارة الحمائمية الأولى لعثمان عبد المجيد علي طه وأطير مع «الاشقلباظ» في تابلوهاته وأستمتع بهديل اليمني حلو الصوت في ترنيماته.. تذكرت طرفة حكاها لي صديق كان يجاورنا اسمه «عادل عيد» من هواة تربية الحمام اللاحقين قال وقد كان يملك من ضمن «كوكبته» الحمامية حمامًا يمنيًا أبيض جميلاً كان معجباً به جداً ويسمع أنغامه عند كل صباح فإذا بكديس يعتدي على البرج ويأكل الجوز اليمني.. قال عادل: المشكلة إنو اختار أجمل وأغلى الأنواع عندي بالرغم من أن حجم الحمام اليمني كان صغيرًا ربما لا يشبعه. قلت لعادل: يعني إنت كان هاميك تشبع الكديس أهو كلو عند الكديس حمام. ونواصل لاحقاً مع عثمان ذكرياته مع الحمام.