يعتبر الشيخ علي عبد الله يعقوب من أبرز المؤسسين لحركة الإخوان المسلمين في السودان، بعد أن تشرَّب تعاليمها من صديقه مصطفى محمد علي في أربعينيات القرن الماضي.. وفي هذا الحوار التوثيقي الذي أجرته معه «الإنتباهة» لم يكتف يعقوب بالوقوف على الاطلال فقط ولكنه تجاوز ذلك متسللاً إلى محطات مهمة في حاضرنا الراهن، فكان الحديث عن الفساد أكثر جرأة وتحديداً وموضوعية، كما كان التعليق على المذكرة «التصحيحية» أكثر قوةً وتنبيهاً للذين يدفنون رؤوسهم في الرمال، ويقللون من شأن المذكرة. الشيخ علي عبد الله يعقوب كشف في هذا الحوار تفاصيل دقيقة عن صعود الترابي لقيادة الحركة الإسلامية، وكيف كانت إدارته لها، وكيف أنه همّش شيوخ الحركة الإسلامية واحتمى بالشباب أمثال علي عثمان وغازي صلاح الدين قبل أن ينقلبوا عليه ويطيحوه من خلال مذكرة العشرة.. وتفاصيل المعارك الشرسة مع الشيوعيين، ودعوته الصريحة للتحقيق مع قيادات «سماها» حامت حولها شبة الفساد، وتبريره لافتتان الإسلاميين بالسلطة والانشغال بالاستثمارات الضخمة، والتحذير من الشعور بالغبن داخل المؤتمر الوطني.. كل ذلك تناوله الشيخ علي عبد الله يعقوب بحكمة الشيوخ، وجرأة الفرسان وموضوعية العلماء، وبلاغة الفصحاء.. فإلى الحوار كلمةً كلمةً وحرفاً حرفاً.. المنهج التربوي، كان الأساس الذي قامت عليه الحركة الإسلامية.. أين هذا المنهج الآن؟ للإجابة على هذا السؤال يجدر بنا أن نشير أولاً إلى الظروف التي خرجت فيها حركة الإخوان المسلمين، فقد ظهر الفساد في كثير من البلاد الإسلامية، فكانت بيوت الدعارة مفتوحة الأبواب علناً في مصر، وكانت هنا في السودان البارات ومصانع البيرة منتشرة، ويحدث الفساد في كل البلاد الإسلامية، وكان ذلك بعد سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا، وحدث فراغ كبير. وفي هذه الأثناء ظهر حسن البنا وكان منهجه تربوياً، وكان يريد أن يربي الناس، وينتشلهم من حالة الفساد، تأسياً بالرسول «صلى الله عليه وسلم» الذي آخى أولاً بين المهاجرين والأنصار ووحد بين المسلمين، فكانت الدولة الإسلامية التي عاصرت أكبر دولتين هما دولتا الفرس والروم، فكانت الأولى مجوسية والثانية مسيحية مثلما الآن روسيا شيوعية، وأمريكا مسيحية، وفي ذلك الوقت قام ذلك المعلم الشاب رحمه الله حسن البنا، فكان يجوب بدعوته الأرياف، وكان يعظ الناس في المقاهي وليس المساجد، والتف حوله كل من ينبض قلبه بحب الخير، وكان هو ذلك المنبع الذي ينهل منه الناس، فسمى الجماعة «الإخوان المسلمين»، ولما كان وعد بلفور تدرب الإخوان المسلمين على السلاح، وأنشأوا الكتائب بدعم ذاتي، فيجتمع كل خمسة منهم ويسمون الأسرة، فيتدارسون القرآن والسنة والسيرة، فامتلأ وجدانهم أثناء حرب فلسطين بالجهاد، واشتروا السلاح من البدو إلى أن دخلوا تل أبيب، وحدث بعد ذلك التآمر على الشيخ حسن البنا حتى تمت تصفيته بواسطة الملك فاروق، حتى لا ينتشر الإسلام، ولكن الله متم نوره ولو كره الكافرون، فنشأت هذه الأسرة وسط المزارعين. هذا في مصر، فكيف نشأت الحركة في السودان؟ في السودان نشأت الحركة على يد علي طالب الله وهو من أبناء القطينة، وقد ذهب إلى مصر وبايع الإمام حسن البنا، وكذلك عوض عمر وهو أول قارئ للقرآن في الإذاعة السودانية، وكانت أسرته كلها متدينة، وتأثر هذان بحسن البنا متى حدث ذلك تحديداً؟ هذا كان في مطلع الأربعينيات، ووقتها كنا في المعهد العلمي بأم درمان عام 1947م، ولم أكن أنا أخاً مسلماً في ذلك الزمان، وانتشرت وقتها المعاهد العلمية الدينية مثل الأزهر، وكان الإجلاس على الأرض، وكان لكل أستاذ شجرة يجلس تحتها أو تحت عمود يلتف حوله الطلبة، فكان لكل أستاذ حيران، وكانت حركة الإخوان موجودة في المعاهد العلمية. كيف استهوت حركة الإخوان الطالب علي عبد الله يعقوب ومن أخذ بيده إليها؟ هذا موضوع غريب بعض الشيء «يضحك»، في عام 1948م أنا كنت عضواً في اتحاد يسمى «الجمعية التمثيلية»، وفي ذلك الوقت سيَّرنا مظاهرة ضد الاستعمار الانجليزي، وكانت ميولنا آنذاك نحو مصر بحكم العلاقة بين الأزهر والمعاهد العلمية وحزب الأشقاء، الذي كان يتزعمه إسماعيل الأزهري، وهو حزب ينادي بالوحدة مع مصر، وكنت أصغرهم سناً، وكنت أصدر صحيفة حائطية في المعهد، وكان الأزهري أيضاً رئيس نادي الخريجين، وكان يعمل معلماً في مدرسة حي العرب.. والمهم أن المظاهرة انطلقت حتى نادي الخريجين وأخذنا معنا الأزهري في المظاهرة من المدرسة، وكنا نهتف بسقوط الاستعمار. كيف كانت ردة فعل المستعمر؟ بعد انتهاء المظاهرة مباشرة، «رفتت» السلطات الأزهري من المدرسة، ونحن أيضاً «رفتونا» من المعهد. كل المتظاهرين فصلوهم؟ لا «رفتوا» أعضاء اللجنة فقط، وفي ذلك الوقت اخترنا لبعثة إلى مصر، سميت بعثة الملك فاروق، وذهبنا في تلك البعثة وكنا «7» طلاب لندرس في الأزهر الشريف، ومن ضمن ال «7» كان هناك «4» شيوعيين، «يضحك» ليدرسوا في الأزهر!! وكان من بينهم اتحادي وهو محمد الشيخ الفادني، وعثمان محمد علي من الإخوان المسلمين، وأنا وقد كنت اتحادياً في ذلك الوقت، وكنا نسكن في شقة واحدة، وكان الشيوعيون يهاجمون حسن البنا ونقول لهم: يا جماعة هاجموا أفكاره ولا تهاجموه هو، فهو ميت وكان هناك مصطفى محمد علي الذي كان متعاطفاً معه جداً، وهذا كان منصوباً «شركاً» لي، وفعلاً «شرّك» لي وصرت أخاً مسلماً على يد الأخ مصطفى. يقال إنك خضت معارك شرسة ضد الشيوعيين.. فماذا عن هذه المحطة؟ نعم لقد كنت عبارة عن نمر شرس، وأشرس ما أكون على الشيوعيين، وكنت أكرههم لأنهم لم يكونوا على خلق، فكانوا يتعاطون الخمر ويمارسون الفاحشة.. وطبعاً كانوا معي في الشقة. من من الشيوعيين البارزين كانت لك معه صولات؟ كثيرون، لكن أذكر أني كنت أطرد التيجاني الطيب من الشقة وأمنعه من الدخول. «مقاطعاً» هل كان معكم بالشقة ضمن البعثة؟ لا هو كان في جامعة الخرطوم وتم فصله، وكان يأتينا هنا ويوزع المنشورات، وكان «يندس» من البوليس عندنا في الشقة، ولعل هذا ما جعلني أكثر الناس معاداةً للشيوعيين خاصة عندما أتيت للسودان وأنا أشد خصومة للشيوعيين. متى كان انضمامك لحركة الإخوان تحديداً؟ كان ذلك في عام 1949م. أين كان الترابي وقتها؟ الترابي وقتها كان يدرس بالمدارس الثانوية، وأنا عندما دخلت حركة الإخوان المسلمين كان الترابي في مدرسة حنتوب، وللتاريخ أنا الذي رشحت وفوَّزت الترابي ليتقلد زعامة حركة الإخوان المسلمين. حدثنا بشيء من التفصيل عن هذه الخطوة وكيف تمت؟ أصلاً كان هناك ثلاثة من القيادات يتنافسون على قيادة الحركة، وهم: الرشيد الطاهر بكر والشيخ صادق عبد الله عبد الماجد وحسن الترابي، وطبعاً وقتها كان الحكم عسكرياً «حكومة عبود» ونحن اجتمعنا بوصفنا مجلس شورى، وتم ترشيح هؤلاء الثلاثة، وأنا الذي فوَّزت الترابي. هل أنت نادم الآن على أنك فوَّزت الترابي آنذاك؟ «صمت وتجاهل الإجابة عن السؤال، ومضى يقول» بعد أكتوبر اجتمعنا لاختيار زعيم لنا، وأنا عندما رشحت الترابي أقنعت الإخوة وقلت لهم إن لكل ثورة زعيم وقائد، وإن قائد هذه الثورة «يقصد ثورة أكتوبر» هو حسن الترابي، وعزمت على ترشيحه إلى جانب صادق عبد الله عبد الماجد، والرشيد، وبالمناسبة هذا الرجل النحيف خطيراً جداً، بل هذا أخطر شخص عرفته، فهو مقاتل من الدرجة الأولى، لكن صادق انسحب واصبح المتنافسان الآخران هما الترابي والرشيد الطاهر. لماذا رشحت الترابي.. بمعنى ما هي الميزات التي أعجبتك فيه آنذاك؟ لأن الترابي كان زعيم ثورة أكتوبر، وكان متحدثاً لبقاً، هذا فضلاً عن أن الرشيد لم يصمت لكنه اعترض على رئاسة الترابي.. لماذا اعترض الرشيد الطاهر على رئاسة الترابي للحركة؟ قال إن سبب اعتراضه أن الترابي متزوج من آل المهدي.. هل هذا يكفي لإقصائه من القيادة؟ طبعاً الحجة لم تكن مقنعة. وماذا حدث بعد ذلك؟ وقتها عندما رفض الرشيد ترشيخ الترابي، قلت للترابي والرشيد، اخرجا «يقصد خارج مكان الاجتماع» ثم قلت للحاضرين، الرشيد لا يصلح للأمارة لأن الذي يطلب الأمارة لا يؤمّر، وهذا نص، فعندما جاء ابن عباس للرسول «صلى الله عليه وسلم» وطلب أن يؤمّر لم يؤمّره الرسول «صلى الله عليه وسلم»، وقال له لن نولي هذا الأمر لمن طلبه. وطبعاً الرشيد رفض الترابي في وقت لم يكن هناك منافس له غير الترابي بعد انسحاب صادق عبد الله، وهذا يعني أنه طلب الأمارة يعني جيبوني أنا لذلك ذكرت لهم هذا النص. لكن يا شيخ علي أليس من الغريب أن يتذرع الرشيد الطاهر بحجة هشة لإقصاء منافسه مثل زواج الترابي من آل المهدي؟ طبعاً هو كان يقصد أن من المحتمل أن تؤثر الزوجة على زوجها ويتبع سبيل آبائها، وهذا الكلام غير منطقي، وأنا قلت له إن الرجل عندنا في السودان دائماً يؤثر على المرأة فتتبعه «يضحك». وهذا ما حدث بالفعل؟ نعم هو ما حدث تماماً، وقلت لهم أيضاً إذا كان الصادق أخاها، فهو آنذاك طالب، والترابي أستاذ، ومن الممكن أن يؤثر الأستاذ على الطالب «ضحك» وقلت لهم: نفترض أن الترابي وقع بين نسيبه وزوجته، فنحن أيضاً يمكن أن نشكل قيادة جماعية وتجمع لأي أمر مهم وترجح الكفة، وبعد ذلك وافق الإخوان على ترشيح الترابي واختاروه بعد الحجة التي بينتها لهم، وبذلك جعلته أنا في القمة. وهل عمل الطاهر بكر بعد ذلك تحت قيادة الترابي بشكل طبيعي؟ لا الرشيد بعد ذلك خرج من الحركة وانضم للحزب الاتحادي الديمقراطي وأصبح يخطب مع الاتحاديين، والترابي لم يكن معروفاً بعد أكتوبر لأنه درس بالخارج، وكان أستاذ القانون الدستوري بجامعة الخرطوم ولم يكن معروفاً، لكني أنا دعمته، وفوَّزته، وكونت منظمة الشباب الوطني و «حكمات» و «سعاد» كونوا الجبهة النسائية الوطنية، وسليمان السعيد كون منظمة العمال الوطنية، وميرغني النصري منظمة «المهنيين الوطنيين». ما هو الهدف من تكوين هذه المنظمات؟ هذه المنظمات كونت لمواجهة الاتحادات التي كونها الشيوعيون، وهي المنظمات التي دعمت الترابي، فكان لدى الشيوعيين اتحاد الطلاب واتحاد العمال واتحاد النساء، وقلت لهم لازم نحاربهم بذات الأسلحة، والترابي وجد نفسه وسط هذه التنظيمات الاجتماعية المؤيدة والمؤازرة، وهذا هو سبب صعود الترابي إلى القمة. صف لنا أجواء المعركة آنذاك بينكم وبين الشيوعيين. المواجهة كانت عنيفة ومستعرة للغاية وشرسة. يقال إن الحركة الإسلامية في السودان استفادت كثيراً من قدرات الشيوعيين التنظيمية وسرية العمل.. فماذا تقول في ذلك؟ والله طبعاً الشيوعيون استفادوا كثيراً من تنظيم وخبرة الاتحاد السوفيتي، وقد أمسكوا بالقواعد من خلال تلك الاتحادات التي أشرت إليها، وعندما كونوا اتحاد الطلاب كونا منظمة الشباب الوطني، وكذلك اتحاد العمال الوطنيين في مواجهة اتحاد العمال، يعني حاربناهم بسلاحهم وهكذا.. لأن هذه الفكرة تقربنا من الجمهور، والحقيقة هم سبقونا إلى هذه التنظيمات، والحمد لله وفقنا في حربنا على الشيوعية، وهذا توفيق من الله سبحانه وتعالى، وهم أيضاً سبقونا وكونوا الجبهة المعادية للاستعمار في 1948م. لكن يا شيخ علي حركة الإخوان المسلمين كانت غائبة عن معركة التحرير الوطني ضد الاستعمار، فإذا كان الشيوعيون قد كونوا الجبهة المعادية للاستعمار فأين الإخوان من تلك المعركة؟ في ذلك الزمان الإخوان المسلمون كانوا قلة ولا يتجاوزون أصابع اليدين، وأنا عندما أتيت من مصر عام 1949م وجدت الإخوان معزولين وغير مؤثرين في الحياة. كم قضيت في مصر؟ عشر سنوات من 49 1959م. وماذا درست هناك؟ كنت أدرس اللغة العربية بالأزهر الشريف، وحصلت على «العالمية» من الأزهر. عندما أتيت من مصر ووجدت الإخوان معزولين.. ماذا فعلت أنت؟ تحركنا بعد ذلك، وقالوا لي إن الحكم العسكري يمنعهم من أي تحرك، وقلت لهم إن الحكم في مصر أيضاً عسكري وقمعي ولكننا مع ذلك كنا نتحرك ونعمل، والحقيقة وقتذاك أن «عبود» كان يتعامل مع الاتحاد السوفيتي وقد دعمه ولذا فتح المجال للشيوعيين هنا للعمل، وكان اتحاد الشباب يرأسه خليل الياس، وهو الآن حيي موجود، واتحاد العمال كان يرأسه الشفيع، وكذلك عبد الخالق، واتحاد النساء كان بزعامة فاطمة أحمد إبراهيم.