يُعرِّف جون لوك في كتابه "الحكم المدني" الطغيان بأنه ممارسة سلطة لا تستند إلى أي حق، ويقول إن الطغيان يقوم على استخدام إنسان ما السلطة التي وقعت إليه من أجل مصلحته الخاصة لا من أجل الخير للمحكومين، وتتجسد السلطة المطلقة حينما يجعل الطاغية إرادته قاعدة السلوك عوضا عن القانون، وعندما تتجه أوامره وأفعاله نحو إرضاء طموحه وإشباع مطامعه عوضا عن المحافظة على مكتسبات شعبه. يتابع ملايين السودانيين هذه الأيام تفاصيل محاكمة أولية للطاغية المعزول، عمر البشير، بتهم الثراء الحرام والمشبوه والتعامل بالنقد الأجنبي، بعد إقراره باستلام 25 مليون دولار من ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إضافة لاستلامه شيكا بمبلغ مليون دولار من دولة الإمارات، وتأتي هذه الاتهامات بعد أن عثرت السلطات على مبالغ مالية تشمل 6.9 مليون يورو، و351.770 دولار، و5.7 مليون جنيه سوداني أثناء تفتيش منزله. من الجلي أننا هنا بإزاء حاكم متسول اعتاد على استلام الأموال من حكومات الدول الأجنبية اعترف الطاغية المعزول بأن المبلغ الذي استلمه من ولي العهد السعودي لم يتم إيداعه في المصرف المركزي لأن المصرف كان سيسأل عن مصدر تلك الأموال، وأنه رغب في عدم ذكر اسم المصدر، بناء على رغبة بن سلمان، وأضاف أن تلك الأموال قد أرسلت له بصفته الشخصية وليس كرئيس دولة، كما أقر بأنه كان يقوم ببيع الدولارات في السوق الأسود للعملة بواسطة أحد أقرباءه. ذُهل السودانيون وهم يستمعون لتلك الاعترافات الخطيرة التي أدلى بها الطاغية، والتي أوضحت بما لا يدع مجالا للشك، بلغة القانونيين، أنه قد أحال البلاد إلى ضيعة خاصة لا يحكمها قانون سوى رغباته المريضة التي تتحكم فيها وتسيرها شهوة غير محدودة لتحقيق مصالحه الضيقة في اكتناز الأموال واستغلال النفوذ وتحطيم القوانين. لم تقتصر الجناية على مجرد إشباع شهوة الطاغية دون مراعاة لقانون أو عرف، بل امتدت لامتهان شرف الوطن بأجمعه، حيث رأى السودانيون كيف باع رأس دولتهم الذليل كرامة الشعب وهو يتسول الشيوخ والأمراء والملوك، وذلك أمر لم يعهدوه عند كل الرؤساء الذين حكموا البلد منذ خروج المستعمر، إذ اتسموا جميعا بالعفة والنخوة والمروءة التي تمنعهم من إراقة ماء الوجه أمام رصفائهم من أجل حفنة من الدولارات. ومما يزيد الأمر ضغثا على إبالة أن الطاغية المخلوع حكم السودان ثلاثين عاما باسم الدين، لم يترك فيها مناسبة إلا وعمد إلى تذكير الناس بأنه جاء للسلطة لتحكيم الإسلام وتطبيق الشريعة، ومع ذلك لم يسعفه ذلك الادعاء على الارتداع برواية الصحابي، ابن اللُّتْبِيَّة، الذي استعمله الرسول الكريم على صدقات بني سليم، فلما جاء يحاسبه، قال: هذا مالكم، وهذا هدية، فقال له النبي: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا! يذكر السودانيون جيدا كيف كان الطاغية الفاسد يتراقص في اللقاءات الجماهيرية ملوحا بعصاه ومرددا أهازيج الإخوان المسلمين من شاكلة: "في سبيل الله قمنا نبتغي رفع اللواء، ما لدنيا قد عملنا، نحن للدين فداء، فليعد للدين مجده، أو ترق منا الدماء"، وها هو اليوم يجلس بكل بؤس داخل قفص الاتهام مُقرا بأن عمله كان لإشباع رغباته الدنيوية الوضيعة ولم يكن من أجل الدين أو الوطن. يا لعار الطاغية! يدَّعي أن المبلغ قد أعطي له بصفته الشخصية، وكأنما قد جمعت بينه والأمير السعودي صداقة أو زمالة أو صلة رحم، إذ يعلم القاصي والداني أنه ما كان ليتعرف عليه أو يجتمع به وهو ضابط مغمور في الجيش أو رئيس للنادي الرياضي في الحي الذي يسكن فيه، بل التقاه بصفته رئيسا للسودان، وبالتالي فإن أية تعامل مشترك يتم في هذا الإطار وتحت هذه اللافتة، ولا يمكن أن يأخذ طابعا شخصيا بأية حال من الأحوال. وهو إذ يحاول تبرير سبب عدم إيداع المبلغ في خزينة المصرف المركزي، إنما يقع في تناقض واضح، ذلك لأنه عزا الأمر لعدم رغبة الأمير في ظهور اسمه وهذا في حد ذاته عذر أقبح من الذنب لأنه ليس مقبولا من رأس الدولة أن يخرق القوانين والنظم مراعاة لرغبة أية شخص، ومن جهة ثانية كان الطاغية قد ادعى أن المبلغ أرسل له بصفة شخصية مما لا يستوجب إيداعه في المصرف المركزي ابتداء. كذلك أقر الطاغية المخلوع في المحكمة باستلامه صكا بمبلغ مليون دولار من دولة الإمارات العربية باسمه، مسحوبا على أحد المصارف الإماراتية، لكنه قال إنه لم يسحب المبلغ ولا يعرف أين ذهب ذلك الصك! من الجلي أننا هنا بإزاء حاكم متسول اعتاد على استلام الأموال من حكومات الدول الأجنبية ضاربا عرض الحائط بالقوانين وساعيا لإشباع رغبته الخاصة دون مراعاة لسمعة الدولة التي يترأسها أو الشعب الذي يحكمه، وهو إذ يقوم باستلام تلك الأموال من الأجانب دون ضوابط أو إجراءات رسمية إنما يضع مصالح البلد وأمنها القومي على المحك، ذلك لأن تلك الموال لا تُدفع بهذه الطريقة دون أن يُطلب في مقابلها ثمن ما. لا يمكن أن تحدث مثل هذه الممارسات في الدول التي تحكمها الأنظمة الديمقراطية وتخضع فيها السلطة التنفيذية للرقابة ولسلطة القانون، حيث تُلزم تلك الدول رؤساءها بالتبليغ عن أية أموال أو حتى هدايا شخصية تذكارية يتلقونها من دول أجنبية، ولا يسمح لهم باقتنائها، ذلك لأن أمرها يرتبط ارتباطا وثيقا بقضية السيادة الوطنية، فالرؤساء لا يمثلون أنفسهم بل هم رموز يجسدون مكانة الدولة ويُعبِّرون عنها في مجتمع الأمم. لا شك أن محاكمة المخلوع ستكشف المزيد من خفايا الدولة الشمولية التي حكمت البلد طيلة ثلاثين عاما باسم الدين الإسلامي، ولم يحصد الشعب السوداني من ورائها سوى الخراب والدمار الشامل في كل نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما حدا به للخروج في ثورة جماهيرية عارمة أسقطت الطاغية وبطانته الفاسدة لتضع البلاد على طريق الحكم الديمقراطي المستدام. قناة الحرة