كان المساء يرمي ظلاله على هالة الصمت، كشجرة حزينة في صحراء تهرب منها الرمال، جلس الرجل يدخن لفافة من التبغ وحيداً بعد أن خاصم كامل روزنامة الأحبة وكوكبة أصدقاء العمر، فجأة تطل بين سطور كراسة حياته امرأة باهرة مثل تفاحة شهية يحملها طير أخضر في بيدر الريح، كان مشغولا بآليات ركض الحياة وهارباً من واقعه المؤلم، فجأة حركت المرأة التفاحة مواويل العشق في دفاتر قلبه الممزقة، وشحنت دواخله المنطفئة بزيت العافية، كانت ضربة البداية منها سألته عن سر الحزن في حراكه اليومي وفي إنطفاءة عينيه، قال إن الحزن تخيره دون البشر ليرمي في سلاله بعض خبز الشجون، سألته عن اسمه وصنعته، حدثها بإسهاب عن ركضه المتواصل في زحام الحياة وعن أسفاره المتشعبة، اكتشفت أنه رجل من طراز متفرد يجيد الإصغاء والإطراء ويعرف كيف يرضي الغرور، أبلغته أنها حاصلة على إجازة في القانون، ولكنها وضعت متاريساً بينها والعمل وفضلت أن تستسلم للصمت، سألها عن اسمها قالت: وهي تضغط على مخارج الحروف " شجن"، يا إلهي هتف الرجل من أعماقه إنه اسم باهر، قالها وهو يضغط على دوائر الدخان في صدره، حاورها على ضفة الليل، كانت كلماتها مقتضبة وتنم عن جرح فارط وربما خذلان تعرضت له من شخص عزيز، تكرر اللقاء في المقهى المعتم والذي يستقبل رواد الليل الهاربين من النوم والباحثين عن فضاءات التأمل، ويبدو أنها ارتاحت له، فبدأت طاحونة الكلام تفيض بالكثير من ملامح الشجن والإحباطات، قالت له ذات ليلة مفرطة في التوغل إن المرأة يمكن أن تنسى أي جرح في حياتها، ولكن لا يمكن أن تنسى جرح الإهانة، قاطعها الرجل الخبيث، تقصدين الخيانة، نعم هي كذلك قالتها، وهي تضغط على الكلمات مثل ريح هاربة في عتمة الليل، قبيل الفجر قال وهو يودعها لقد تعودت عليك، زمت شفتيها مثل قمر هارب من هالة الغيم وخرجت وهي تدمدم بكلمات فهم منها أنها تسب الرجال، لك حق يا عزيزتي الجميلة قالها وهو يمسح بقايا عتمة في عينيه من أثر السهر، (يا صابرة نحنا صبرنا طال صبر الرجال هد الجبال).