الرتابة تخنقنا، ولذلك تبدو ردود أفعالنا نفسها رتيبة ! ننكفئ على آلامنا ومشاكلنا، ولا يهمنا ما يجري للآخرين إلا بقدر ما يمسنا من ضر. نهرب من الرتابة إلى التلفاز .. لا أقصد القناة الفضائية السودانية .. لنجول بالريموت في قنوات أخرى محترفة .. تعرف كيف تجتذب جمهورها .. فنغيب عن واقعنا، ثم نعود لاحقا لذلك الواقع .. لنمارس مجددا برود الأعصاب المعهود . الكثير من الفسباكة، أجدهم وقد كتبوا في صفحاتهم بالفيس بوك بأنهم يعانون من (الزهج)، وأحيانا يكتفي بعضهم، أو بعضهن، بكتابة كلمة واحدة فقط .. هي : (زهج) ! سياستنا رتيبة، وقراراتها رتيبة، ولم نعد في انتظار عمل سياسي يقود الساحة لمتغيرات حقيقية .. ولإصلاح واقعي وملموس، فالأشياء كلها تسير برتابتها المعهودة، والوجوه تتكرر برتابتها المعهودة، والكلمات تتكرر برتابتها المعهودة، والهتافات تتكرر برتابتها المعهودة ! الاقتصاد نفسه، رغم متغيراته وانهياراته المثيرة، أصبح رتيبا، وأصبحت معالجاته للأزمات عديمة الخيال .. عقيمة الاستيلاد للأفكار الجديدة المبتكرة، وما زال في محطة تحرير الأسعار، حائرا في كيفية الفكاك من تلك اللعنة، واضعا يده تحت ذقنه .. في ذهول رتيب بليد لا يبدو قادرا على مغادرة أسواره . أحد أصدقائي، باغتني وهو يسمع شكواي من الرتابة، فقال إن الصحفيين يلوون كل الأشياء ليرجعوها إلى السياسة، فالانجازات العظيمة التي يحققها الشعب يتم تحويلها إلى الزعماء السياسيين، والظواهر الاجتماعية الإيجابية أو السالبة يتم نسبتها للقادة والسياسيين، وإحباطات الكرة وهزائمنا وتواضع مستوانا يتم نسبتها للسياسة والسياسيين، وإخفاقاتنا العاطفية وشواكيشنا بكل شرورها وآلامها .. لا بد أن تصبح الملامة فيها أيضا للسياسيين ! ولأن الحديث عن المعاناة نفسه أصبح رتيبا، فلم أرد على الصديق، رغم أن سؤالا ملحا كان يراود ذهني .. حول كنه الإنجازات (العظيمة) التي تحدث عنها . تصوروا .. حتى غناءنا الذي نطرب له، ونصنع من رموزه أساطير .. يتحول لشيء رتيب وممل، بلمسة سريعة على الريموت، لنرى أقراننا خارج حدودنا الشرقية، وهم يملأون ساحات الغناء حيوية ورقصا وفنا وإبداعا، ولنسمع رصفاءنا غربا وشمالا وجنوبا وهم يقدمون موسيقى نابضة بإيقاعات ساخنة، ولم أشاهد بينهم فنانا متمترسا خلف آلة العود .. يثير الشجن والدموع .. وأحيانا التثاؤب .. بل شاهدتهم كلهم يملأون الدنيا حركة .. وطربا .. وتفاعلا .. ليسعدوا ويسعدوا جماهيرهم ومستمعيهم . عندما يستشري داء الرتابة .. لا يترك مساحة إلا ويكتسحها، فهو كالمرض الجلدي الذي ينتشر بعدوى المنطقة المصابة للمنطقة السليمة . الوصفة التي أملكها .. هي أن الخروج من الرتابة يبدأ بالقدرة على تحريك الركود، والركود يبدأ سنامه من السياسة ومحترفيها، فإذا لم يحدث التحديث والتغيير والتجديد في أولئك .. تستمر السياسة ورجالها المتنفذون في الدوران الرتيب، لتستمر المعالجات ذاتها، والشعارات ذاتها، والمعاناة ذاتها، والهتافات ذاتها ! وإذا بدأ تحريك الركود في السياسة .. تبدأ في التو حركة التجديد في كل شيء، حيث يتحرك الاقتصاد بأفكار متألقة قادرة على الاختراق، ويتحرك المجتمع ليهتم بقاضاياه ويخرج من انكفاءاته على الذات، وتتطور رياضتنا لتصبح جديرة بالمشاهدة والمتابعة كما هو حادث في دول تعلمت الكرة بأيدي روادنا. الرتابة داء .. لا برء منه إلا بشفاء السياسة !