كانت مدرسة وادي سيدنا الثانوية \"دولة\" قائمة بذاتها، تتوفر بها كل مدخلات التعليم، ويعيش فيها المعلمون وعائلاتهم مع الطلاب في حيز واحد محاط بالخضرة والبساتين المطلة على النيل، وبها مركز شرطة يتلقى العاملون فيه التوجيهات من ناظر المدرسة، وكانت بها عدة أندية اجتماعية للطلبة والمدرسين والعمال، ومركز صحي حسن الإعداد، ومدرسة ابتدائية ومركز شرطة ومرافق لكل أنواع الرياضة، بل كانت أول جهة في السودان تعرف لعبة كرة اليد وخصصت لها ستة ميادين. وصل ابوالجعافر مدرسة وادي سيدنا الثانوية (المحتلة حاليا من قبل العسكرتاريا بعد ان تم تحويلها الى كلية وقاعدة حربية)، وأحس أنه بلغ كمال المجد، فكون المدرسة تتألف من طابقين أعطانا الإحساس بالارتقاء \"الطبقي\"،.. ستة ملاعب كرة بالنجيل الطبيعية الذي يتم قصه بطريقة أفضل من الطريقة التي كان حلاق المدرسة العم بشتنة يقص بها شعر رؤوسنا.. حوض سباحة أولمبي.. ملاعب تنس أشكال وألوان.. ونادي زوارق كنا نستخدمه لسرقة البطيخ من المزارع التي في الشاطئ الآخر أو الجزر القريبة من المدرسة.. ولكل داخلية ملعب لكرة السلة وآخر للكرة الطائرة.. وبستان به فواكه أشكال وألوان... وكانت هناك مكتبة تضم آلاف الكتب المحترمة ويعمل بها اشخاص ذوو ثقافة عالية يوجهونك الى نوع القراءة التي تناسب ميولك. .. يكفي أن أقول ان أمين مكتبة مدرستنا تلك كان قاسم نور الذي يعرف حاليا بعميد علم وإدارة المكتبات في السودان ونال درجة الأستاذية (بروفسور) في علم المكتبات. وكان أجمل ما في المدرسة ان أولاد أم درمان فيها كانوا أقلية مضطهدة.. اثنان او ثلاثة في كل حجرة دراسية، وكان غالبية طلاب المدرسة من قبائل شمال السودان النيلية ومن بينهم النوبيين: المحس والدناقلة، وكانت حرية التعبير باللغة النوبية مكفولة، بمعنى انه لم يكن هناك تطهير لغوي عرقي كما كان الحال في مدرسة البرقيق الوسطى حيث كانت عقوبة التخاطب باللغة النوبية هي الجلد في الأرداف، وهكذا تخرج المئات من المحس والدناقلة من وادي سيدنا دون ان يضيفوا كلمة جديدة الى لغتهم العربية الكحيانة. وكان هناك حوض ضخم قريب من قاعة الطعام في المدرسة، وكان المحس والدناقلة يحتلونه قبل وبعد الوجبات حتى صار ناديا خاصا بهم (بصراحة لم يكن حوضا \"بريئا\" بل كان نقطة تجمع مياه المجاري.. بس مش المجاري الفي بالك، لأنه لم تكن هناك سايفونات في المدرسة).. وكان بالمدرسة عدد لا يستهان به من الشايقية، الخصوم التاريخيين لنا نحن النوبيين، ولكنهم وفي مواجهة أولاد البندر (أم درمان) \"المتفلسفين\" والجعليين (الذين يزعمون أنهم ينتمون الى البيت الهاشمي وكلما قلنا لهم: ارحلوا الى دياركم \"السعودية\" قالوا لنا: إنهم سيبقون في السودان باعتباره امتدادا لمملكة أجدادهم).. المهم ان الشايقية، تحالفوا على مضض مع المحس والدناقلة.. وما زلت احتفظ برسالة من الشايقي عبدالله علي الحاج بابكر عنوانها \"ألحس كوعك\" وهي تعبير بليغ عن فعل المستحيل، ويهددني بأن قومه سيستأنفون الغارات على أهلي النوبيين إذا ذكرت الشايقية بسوء.. يا صديقي والله ما عاد فيكم حيل حتى للتصدي لغزو الجراد.. ويقول ان الشايقية الذين كانوا يغزون ديار المحس والدناقلة كانوا أصحاب رسالة!! عيب عليك يا رجل!! أي رسالة واي بطيخ؟ حتى جورج دبليو بوش الذي لم يكن يعرف كوعه من بوعه يعرف ان جميع المشايخ و\"الأولياء\" في السودان \"العربي\" نوبيون.. وفي كل بلدة سودانية تجد قبة وضريحا ل\"ولي\" محسي ودكانا لشايقي.. وأهم إسهام للشايقية بعد استقلال البلاد هو أنهم \"سودنوا\" البقالات بعد خروج اليمانية!! ولولا خوفنا من جفاف الزرع والضرع لسحبنا \"أضرحة الأولياء\" النوبيين من السودان الأوسط الذي يسمي أهله النوبيين ب \"البرابرة\". أخبار الخليج - زاوية غائمة [email protected]