بعد أشهر قليلة من العيش في سكن مشترك مع عزاب في الدمام، خصصت لي شركة أرامكو فيلا صغيرة وأنيقة جدا من طابقين في الظهران هيلز (تلال الظهران)، الذي كان حيا سكنيا جديدا ومعظم البيوت فيه خالية من السكان، ولعدة أشهر عشت فيه بمفردي، إلى حين استكمال إجراءات استقدام زوجتي وطفلي الأول، بتأشيرة زيارة (وليس إقامة)، وكانت تلك فترة مرهقة نفسيا وعاطفيا: لم أكن مقتنعا تماما بأن هناك ما يبرر هجرتي من وطني، ولم أكن راضيا عن تعسف أرامكو في أنه لا يجوز حتى لكبار الموظفين العيش مع عائلاتهم في الظهران او غيرها،.. ولأنني مثل غيري اتخذ قرارات طائشة في لحظات الانفعال من حزن او غضب فقد أرجأت قرار مفارقة أرامكو إلى حين انضمام زوجتي إليّ. وصلت زوجتي الى الظهران ومعها ولدنا الأول غسان، وعندها فقط أدركت أنني لن استطيع الاستمرار في العمل في أرامكو بعيدا عن أسرتي الصغيرة، من محاسن الهجرة والاغتراب خارج الوطن، أن أفراد الأسرة يكونون لصيقين ببعضهم البعض بقوة، فلا توجد التزامات كثيرة تبرر خروج الزوج او الزوجة من البيت كما هو الحال في السودان: نفيسة ولدت.. ومصطفى عمل عملية زائدة.. وزينب محتفلة بختان أولادها، وعبدالرحيم انكسرت رجله، وخالة شفاطة وعمتها وابن عمها ماتوا في حادث مروري،.. في السودان لابد من تخصيص ميزانية للمواصلات للمجاملات،.. في المهجر لا يتخلى السودانيون عن المجاملات في الأفراح والأتراح ولكن ليس بمعدلات عالية او منتظمة. بعد ان انضمت زوجتي إلي في أرامكو في الظهران ارتفعت كلفة المعيشة، ليس لأن ولدي الصغير كان بحاجة الى خدمات ووجبات إضافية (فقد كان رضيعا)، ولكن لأن زوجتي كانت تستهلك مواد إعداد الطعام بطريقة توحي بأنها تبيع الأكل من وراء ظهري.. اشتري يوم الجمعة خمسة كيلو رز ومثلها من اللحم وأربع دجاجات وستة أكياس مكرونة، وأفاجأ بها بعد نحو أربعة أيام تطلب مني شراء تلك المواد مجددا.. يا بنت الناس ما يصير.. أنا لا أتناول في البيت سوى وجبة العشاء والولد الرضيع يعيش على اللبن وأنت لست بحجم وحيد القرن حتى تستهلكي كل ذلك الرز واللحم خلال أيام معدودة مع أنه يكفينا لأكثر من شهر.. وانكشف الملعوب ذات يوم جمعة عندما أبلغتها أن بعض أقاربي قادمون من الرياض لزيارتي، فدخلت المطبخ فجرا وكنت قد اشتريت كل المواد اللازمة لوليمة محترمة قبلها بيوم كامل، وفي نحو الحادية عشر ظهرا نزلت الى المطبخ ووجدت أواني الطبخ خاوية رغم ان رائحة الطعام كانت تملأ البيت: وين الأكل يا مدام كوري.. بدأت تهذي بكلام فارغ: انشغلت مع الولد و... الغاز قطع.. كان الولد طوال وجودها في المطبخ يلعب معي في غرفة علوية، والحديث عن انقطاع الغاز في بيوت أرامكو لا يصدر إلا عن كذاب هاو (أي غير محترف) لأن أجهزة الطبخ وقتها كانت كلها كهربائية.. شيئا فشيئا انكشف \"الملعوب\" واعترفت بجريمتها المتمثلة في استهلاك المواد الغذائية بكميات مهولة: كانت المسكينة تعاني من أمية شبه كاملة في فنون الطبخ وتحاول ان تطبخ الرز فيتحول الى عصيدة.. المكرونة تتحول الى عصيدة.. شوربة اللحم تتحول الى عصيدة.. وذات مرة أحضرت كوارع من سوق الدمام فحولتها الى عصيدة وهذا أمر لا يمكن ان يتم إلا باستخدام مفاعل نووي، وكانت كلما فشلت طبخة معينة تتخلص منها في حوض الغسيل الذي كان - لحسن حظها - مزودا بمفرمة، وتعيد الكرة تلو الكرة إلى أن تنجح في إعداد شيء قابل للأكل. وعندما قررت هجر أرامكو نهائيا قلت لها: عندك فترة اختبار 6 أشهر، لو لم تجيدي الطبخ خلالها سأحضر لك من تساعدك على ذلك.. زوجة ثانية.. وخلال شهرين كانت قد صارت قادرة على الطبخ وعيناها مغمضتان. أخبار الخليج - زاوية غائمة [email protected]