في الجمعة الفائتة قلت للقارئ الكريم إنني غيرت اتجاهي داخل أم درمان وتوجهت إلى حى العرب لتكملة حلقة الطاهر إبرهيم من إذاعة البيت السوداني لكي استمع لحديثه وغناء إبراهيم عوض من ذات الحي الذي انطلقا منه. ولحظة وصولي للحي بدأ ابراهيم عوض يشدو من كلمات وألحان الطاهر إبراهيم (أبيت الناس وجفيت خلاني/ وخاصمت الكل علشان حباني). وقفت عند ناصية الشارع المؤدي إلى بيت إبراهيم عوض أصبحت عاجزا عن قيادة العربة لقد استبد بي الطرب فمنزل إبراهيم أمامي ومن داخل السيارة ينطلق صوته ( قلبك حنين وعلي قاسي/ للناس بتلين وأنا لي ناسي/ لكن لمتين جارح إحساسي / صابر متحمل أذاك يا قاسي) ما هذه اللغة الأم درمانية التي تخلب الألباب؟ هربت للخلف تذكرت والدي وجيله وتساءلت لماذا كانوا لا يحبون ابراهيم عوض ؟ عندما ينطلق صوته كانو يغلقون المذياع، هذا الرفض لم يكن رفضا لفنه إنما لأنه ظاهرة اجتماعية جديدة لم يستوعبوها ولكنهم كانوا موقنين أنه كان إعصارا فنيا. حكي لي الوالد رحمة الله عليه أنه في منتصف خمسينيات القرن الماضي جاء إبراهيم لإحياء حفلة عامة بمدينة المعليق فتوافد الناس من القرى المجاورة بالعربات والكوارو (جمع كارو) والحمير وعلى أرجلهم فضاق بهم سور المدرسة فحطموه وغنى إبراهيم (حبيبي جنني) أربع مرات في تلك الحفلة كلما فرغ منها صاح الجمهور (جننا يا بوعويض) فيرد عليهم (أجننكم هوي) ويشدو(بريدك والله بريدك لوتسقيني السم بإيدك/سمك شفاي ودواي / يا طبيب تعال لمريضك). لم أصدق نفسي أنني في حى العرب ذات الحي الذي أنجب سيد عبد العزيز وعبد الرحمن الريح وأحمد الجابري وغيرهم من عمالقة الفن السوداني ولم أصدق أذني وأنا استمع في تلك اللحظة لإبراهيم عوض(أنا بالدموع ودعت حبي / وبالأمل صبرت قلبي/ الصبر طال وكتمت غلبي/ ورضيت بالهم والهم أباني) في كلمة طال هذه مد إبراهيم الألف إلى أن أوصله حد الأفق في هذا المد يظهر تميز حنجرة إبراهيم عوض على غيره . أرجعتني الأغنية إلى أيام الطفولة حيث تذكرت أنني كنت ذات يوم مع رفقاء الطفولة نمر بالقرب من إحدى الإندايات ومفردها إنداية وهي خمارة بلدية تباع فيها المريسة والعرقي وهى مرخصة من قبل الدولة ألف فيها الأستاذ الراحل الطيب محمد الطيب كتابا كتب مقدمته البروفيسور الراحل عون الشريف قاسم (أها تاني في زول عنده كلام ؟) في تلك الإنداية كان السكارى يغنون هذه الأغنية غناء جماعيا وأدخلوا فيها اسم أحدهم وهو عمنا الجيلاني فكانوا يقولون (أبيت الناس وجفيت خلاني/ وخاصمت الكل علشان جيلاني) بدلا من حباني وكان الجيلاني يتوسط الحلقة راقصا وعندما حانت منه التفاتة ووجدنا نتفرج عليه هاج وماج فينا وطردنا شر طردة (ياولاد الكلب ما عندكم أدب الجابكم هنا شنو؟) رحمك الله ياعمنا رحمة واسعة وغفر لك. وتمضي الأغنية ويقطر الشجن منها وتقطع القلب ( ساعة وداعنا أنا دايرك تحضر/ ما تقول نسيت لازم تتذكر/ الناس تتباكى والدموع تتقطر/ بتقطع قلبي أنت لو تتأخر) ما هذا يا طاهر إبراهيم؟ ما هذه البكائية الأم درمانية التي تمزق شغاف القلب ؟ هل كنت ذاهبا لمكتب الفوار بتفتيش الكتير قسم وادي شعير بالجزيرة أم إلى صقع آخر من أصقاع السودان ؟ اقترب مني أحدهم فطرق زجاج السيارة وسألني إن كنت في انتظار أحد فقد لحظ أنني غريب في الحي فقلت له نعم . فقال لي من ؟ قلت له إبراهيم عوض فضحك وقال لي إن ابراهيم عوض مات من زمن فأنزلت زجاج العربة ورفعت له الصوت وقلت له اسمع ( قطاره اتحرك شوية شوية / من بعيد بإيدو أشر لي/ بكت عينيهو وبكت عيني/ دا حكمك يالله يبقى علي / وابيت الناس و.....) فغر الرجل فاهه وأخذ يمعن النظر في هذا المجنون غير المجنون فأدرت محرك العربة واتجهت إلى الخرطوم وما انتهت الاغنية إلا واغلقت الراديو خوفا من سماع المزيد من الطاهر وإبراهيم فما عادت الأعصاب تحتمل صحيفة السوداني - حاطب ليل- 6/5/2011 [email protected]