سقط حمار في بئر، ورأى صاحبه المزارع ان إنقاذ الحمار من البئر سيكلفه أكثر من قيمة الحمار، ولأن ترك الحمار يموت داخل البئر سيتسبب في انتشار روائح كريهة فقد قرر ردم البئر. وعملا بطريقة جورج قرداحي استعان المزارع بصديق، وحمل كل منهما جاروفا وشرعا في إهالة التراب على البئر.. وبعد بضع دقائق أصاب الرجل الإرهاق وألقى الرجل نظرة على البئر ليرى إلى أي مدى نجح في عملية الردم وطمر الحمار تحت التراب، ولكنه فوجئ بأن الحمار يقف فوق كوم التراب الذي أهالاه على البئر.. فألقى بكمية إضافية من التراب فإذا بالحمار ينفض التراب عن جسمه ويسحب قوائمه ويقف فوق كوم التراب.. وهكذا وكلما ارتفع مستوى التراب في البئر ارتفع الحمار إلى أعلى، وباكتمال الردم كان الحمار قد خرج إلى السطح مغطى بالتراب.. ونجا من الموت. ليتنا كلنا ذلك الحمار، فالدنيا كثيرا ما تعطيك ظهرها، وقد تجد نفسك في جبّ عميق من المشاكل، ينهال عليك التراب، فماذا انت فاعل؟ تجلس على الأرض مفرشخا رجليك وتبكي وتلطم الخد، أم تتصرف كما فعل الحمار وتنفض عن نفسك الغبار وتسعى للخروج من الحفرة/ المأزق؟ دعوني أمارس بعض التباهي بشأن تجربة شخصية تصرفت فيها مثل ذلك الحمار.. في سن مبكرة أدركت أنني أملّ عائلتي، فقد كان حالنا مستورا لأن أبي كان يملك تجارة شبه ناجحة، ثم أصيب بجلطة سببت له شللا جزئيا، وقطع شقيقي الأكبر تعليمه ليعول الأسرة، وكنت وقتها في المرحلة المتوسطة ولكنني أدركت وقتها أمرا جوهريا: نجاحي الأكاديمي وحصولي على وظيفة سيعنيان طفرة في مستوى معيشة أهلي، ولا بد ان اجتهد وأنجح في دراستي كي أفوز بمنصب مجزٍ.. ولكنني كنت بليدا في الرياضيات ومن ثم الفيزياء والكيمياء.... يعني لا أمل عندي في الوظائف التي فيها الزبدة مثل الطب والهندسة والصيدلة والمحاسبة، بل إن فقدان درجات متلتلة في مواد ثلاث رئيسية كان يعني ان فرص نجاحي الأكاديمي ضعيفة، ولكنني رأيت أنه ما من سبيل أمامي سوى التفوق في مواد أخرى يجدها كثير من الطلاب «صعبة»، وجعلت من الانجليزية «مادتي» الأساسية.. يتفوق علي طالب في مادة الرياضيات ب20 درجة فأتفوق عليه في الانجليزية ب15 درجة.. لم يكن ذلك كافيا.. كان لا بد من التفوق في مواد أخرى كي أغطي «فرق» الدرجات المفقودة في بقية المواد العلمية، فركزت على اللغة العربية، وكما اعترفت مرارا فقد ولدت أعجميا ناطقا بالنوبية حيث لا تذكير أو تأنيث أو مثنى.. وقمت بتكثيف القراءة باللغة العربية واحسب انني قرأت كل ما هو متاح من روايات ودواوين شعرية عربية معروفة في زماني قبل ان أغادر كرسي الدراسة.. ولم أهمل الجغرافيا والتاريخ والعلوم الدينية.. وإلى يومنا هذا فإن نصف قراءاتي تتعلق ب«التاريخ».. وهكذا خرجت من البئر الذي أوقعتني فيه الرياضيات وتوابعها الزلزالية.. ولكن بعد ان صار لي عيال في المدارس أدركت أنني لم أكن «حمارا» كما قال عني أكثر من مدرس رياضيات، بل كانت الحمورية صفة المناهج وطرق التدريس.. فقد تعلمت من كتب عيالي المدرسية ان الرياضيات تقوم على المنطق.. المهم ان العربية والانجليزية اخرجتاني من البئر وصارتا أداتي لكسب العيش.. اقرأ سير كل الناجحين في مجال التجارة وستكتشف أنهم وقعوا في البئر عدة مرات ولكنهم نفضوا التراب والغبار عن أجسادهم، وخرجوا منه في كل مرة وهم أقوى عودا وعزيمة. جعفر عباس [email protected]