بوجود عائلتي العربيقية معي في لندن اتسع نطاق صدام الحضارات، وعلى سبيل المثال فقد عاد لؤي من الحضانة ذات يوم باكيا، وقال إن الصغار من زملائه سألوه عن نوع وحجم وشكل شجرة الكريسماس التي في بيتنا، فلما قال لهم إنه لم يسمع بذلك النوع من الأشجار، وأن بيتنا فيه شجر تفاح وكرز وكمثرى، ضحكوا عليه، وشرحوا له أنه ما من بيت يخلو من شجرة الكريسماس مع اقتراب ليلة الكريسماس، وزاد الطين بلة أن ذلك الحوار حدث خلال زيارة رتبتها إدارة الحضانة لأحد مراكز التسوق، وكان يجلس فيها الرجل ذو الجبة الحمراء واللحية الطويلة البيضاء «فاذر كريسماس- بابا نويل»، وكان لؤي يحمل معه صورة له وهو يجلس على حجر بابا نويل، وبدأ في العويل: إيييي وااااا.. أنا عايز كريسماس ترِي .. بابا روح جيب كريسماس تري.. لم يكن مجديا أن أقول له إنني «بابا» في حدود بيتنا ولا أملك سلطات فاتيكانية، واستغرق مني الأمر زهاء ساعة كاملة لأشرح له أن الكريسماس لا يخصنا كمسلمين، ثم ألهمني الله، خاطرة كان لها فعل السحر معه: شوف يا لؤي.. نحن احتفلنا بعيد الفطر وصنعنا صنوفا من الكعك والبسكويت وملأنا الموائد بالحلوى، فهل فعل أهل أصحابك في الحضانة نفس الشيء؟ بدت على وجهه ملامح الهدوء والاقتناع، ولكنني كنت أعرف أن ما قالوه له عن تلك الشجرة وما عليها من أضواء متلألئة وهدية متدلية، ما زال عالقا بذهنه كأمر جميل لا علاقة له بالفروق بين الأديان، وهنا جاءتني الخاطرة التي كانت الضربة القاضية: هل ستأكل لحم الخنزير لو طبخناه لك؟ صاح على الفور: إخ .. إخخخخ، وهكذا فهم أنه لا ينبغي لنا ان نقلد أتباع دين آخر في عاداتهم وطقوسهم. وحدث صدام الحضارات قبلها بعد أن تمكنت من نقل ابنتي عبير الى مدرسة للبنات (أي غير مختلطة)، عندما وجهتنا إدارة المدرسة إلى مكتب لشراء اليونيفورم، لأن المدرسة تشتريه (الزي المدرسي) بالجملة، وتبيعه بسعر أقل من سعر السوق، وكنت في صحبة عبير يومها، ونظرنا الى التنانير المعروضة، وإذا عبير تسألني: دا شنو يا بابا؟ دي اسكيرتات وللا شورتات؟.. كان أكثر التنانير طولا ينتهي عند الركبة، ولاحظنا ان معظم البنات من حولنا يرتدين تنانير تكشف عن أجزاء «معتبره» من أفخاذهن، ولما سمعتنا المسؤولة عن صرف الأزياء نهمهم بالعربية، تساءلت ما إذا كنا عاجزين عن التعبير عن أنفسنا بالإنجليزية، فقلت لها بإنجليزية فصيحة إن ابنتي لن تلبس زيا بهذا القصر،.. واي؟ لأنها مسلمة! بط شي إز ستيل يانق.. هي ما زالت صغيرة!! نعم يا دلعدي... تبوظوها وهي صغيرة وتكبر وتبوظ نهائيا!! المهم ان عبير بما اسعفها الله من إنجليزية قالت لها: نو واي ألبس هذا اليونيفورم.. فأبلغتنا تلك السيدة أنه سيكون من العسير عليها ان تجد زيا مطابقا لذاك الذي ينبغي ان ترتديه كل طالبات المدرسة، بمقاس يغطي الساقين لأن من يقوم بتوريدها هو محل جون لويس، وكل الأزياء المدرسية في المحل قصيرة التنانير، فقلت لها إن جون لويس أصلا متجر ارستقراطي ونحن سنلتزم باللون والشكل العام للزي، بمعنى أننا سنشتري قماشا من نفس اللون المستخدم في أزياء المدرسة ونفصله ونخيطه «بطريقتنا»، وتم تحويلنا الى مديرة المدرسة التي تفهمت الأمر وقالت إن النظام المدرسي لن يختل إذا ارتدت طالبة واحدة زيا لا يشبه بقية الأزياء وأبلغتني ان التفصيل والخياطة في لندن يكلف خمسة أضعاف اللبس الجاهز وبالتالي علينا شراء ما نراه من ملابس من أي متجر على ان تكون ألوانها متطابقة الى حد ما مع ألوان الزي المدرسي الرسمي، وهكذا كسبنا جولة في صراع الحضارات. جعفر عباس [email protected]