عند انتقالي إلى مدينة كوستي من بلدتي الريفية بدين في إجازة مدرسية وأنا في نحو العاشرة، شرعت أنهل من منتجات الحضارة؛ لأنني كنت أعلم أن «نعمة» البقاء في المدينة لن تدوم طويلا، ففي أول يوم سبت من شهر يوليو من كل عام كانت المدارس في جميع أنحاء السودان تفتح أبوابها (ما عدا في منطقة الشرق المطلة على البحر الأحمر)، وكان لابد أن أستثمر الإجازة الصيفية في كوستي برصيد كبير من الطفرات، وكان من بينها أكل السجق والكستليتة، وذات يوم سمعت بوقاً يعزف لحناً جميلاً بالقرب من بيتنا، وخرجت إلى الشارع ووجدت الصبية يتحلّقون حول عربة مدفوعة باليد، ويتناولون من صاحبها قراطيس يضعونها في أفواههم، واقتربت منهم ورأيت كل واحد منهم يمد قطعة معدنية للبائع ويفوز بقرطاس، ثم تظهر عليه علامات الانتشاء من أول لحسة لمحتويات القرطاس، فعُدت إلى البيت، وكان أبي نائما، فمشيت على أطراف أصابعي، وسحبت عملة معدنية دائرية، وهرولت بها إلى صاحب العربة وقدمت له العملة التي معي فسألني: عايز بخمسة قروش؟ فأجبت ب«نعم»، وأعطاني القرطاس الأول ووضعته في فمي فوجدته بارداً جداً ولذيذاً جداً، وقبل أن يكمل ملء القرطاس الثاني كنت قد قضيت على القرطاس الأول.. باختصار كان المبلغ الذي نشلته من جيب الوالد «شلن» أي خمسة قروش (كلمة شلن دخلت العامية السودانية بذلك المعنى لأنه وحتى بعد دخول الاستعمار البريطاني السودان ظل الشلن النمساوي متداولا في البلاد)، وهكذا كان إجمالي ما اشتريته من البائع خمسة قراطيس، وقبل أن أفرغ من لحس القرطاس الثالث كان القرطاسان الآخران قد بدآ في الذوبان، فصرت أشفط من هذه مرة ومن تلك تارة، وبعد أن قضيت على كل القراطيس كنت قد فقدت الإحساس بلساني وأسناني، وبكل براءة (وفي رواية أخرى «عباطة») سألت العيال من حولي: دا شنو؟ تخيل شخصا يلحس ويلعق شيئا بنهم شرس وهو لا يعرف اسمه، فقالوا لي ضاحكين: ما بتعرف الدندرمه؟ الله أكبر.. والله سمعت بها، ولكنني لم أكن أعرف كنهها ولا أنها بتلك الحلاوة، وقررت إضافة الدندرمه إلى قاموسي الحضري لزوم الاستعراض والفشخرة عندما أعود إلى المدرسة في بدين حيث 99% من التلاميذ لم يروا الثلج وال 1% المتبقين كانوا محظوظين يوم نزل البَرَد في ذات شتاء، وصرت كل صباح أطلب من أبي أن يعطيني فلوس «الدندرمه»، ولم يكن القصد من ذلك فقط الاستمتاع بلحس ذلك النوع الآيسكريم (والذي عرفت مدى ركاكته لاحقا بعد أن تذوقت الآيسكريم الحقيقي)، بل الحرص على تذكر الاسم، ولكن حدثت لي ربكة غير متوقعة لأنني كنت أجلس مع والدي في المطعم الذي كان يملكه ويشرف عليه من بعيد لبعيد، وسمعت الجرسون يقول لزبون عندنا كذا وكذا وقاورما.. وجلست متحفزا مثل كلب بوليسي لمعرفة ما إذا كانت القاورما والدندرمه التي صرت أشتريها كل يوم هما نفس الشيء، وأن الأمر اختلط عليّ أو أن أولاد الحي الملاعين أعطوني لها اسما خاطئا من باب «التريقة» على قروي، ولسوء حظي فإن الزبون لم يطلب القاورما وضاعت عليّ فرصة الحصول على جواب لتساؤلاتي حول ماهية ذلك الشيء بالنظر بالعين المجردة، وغافلت أبي ثم دخلت غرفة الطبخ وسألت كبير الطباخين: ممكن أشوف القاورما، فعرض علي إناء به كميات مهولة من بصل صغير الحجم، ثم غرف لي بعضا منها في طبق صغير وأتاني برغيف خبز وطلب مني تذوقها، وكانت قصة حب من أول لقمة، فقد اكتشفت أن القاورما من أشهى الأكلات، بعد أن أكملت تعليمي الجامعي كنت بين الحين والآخر ارتاد فندق الشرق في موعد الغداء (كان في الركن المقابل لصالة سنت جيمس التي كانت تستجلب راقصات يونانيات يلعبن بعقول الزبائن فيشترون المزيد من الويسكي وأخواته).. المهم كنت من زبائن فندق الشرق لأنه كان يعدّ قاورما ما حصلتش.. غير شكل.. شيء بديع ولكن القاورما تشابكت مع الدندرمه وصرت أتباهى أمام زملائي في بدين بأنني شبعت من القاورما المثلجة أو الدندرمة بالرغيف الفينو. جعفر عباس [email protected]