بعد التحاقي بجامعة الخرطوم، توهمت بأنني أصبحت من «أولاد الخرطوم»، وحقيقة فإنه رغم أن وطني الثاني داخل السودان كان مدينة كوستي، إلا أنني لم أدرس فيها أي مرحلة، وبالتالي لم يكن وقوعي في غرام الخرطوم يشكل خيانة لكوستي أو بلدتي الأصلية جزيرة بدين، وكان أجمل ما في الجامعة أن عدد أبناء الخرطوم «الأصليين» فيها كان قليلا، وبعبارة أخرى فقد كان معظم الطلاب من الأرياف، وبما أن الخرطوم كانت كما قال عنها شاعرنا الفذ محمد المكي ابراهيم: صغيرة لا تملأ الكف ولكن متعبة/ ريفية ما نصل والخضاب عن أقدامها المدببة/ خائنة وطيبة، فقد كان من السهل التعرف على شوارعها وحواريها، ورغم أن الجامعة ومساكن الطلاب (الداخليات) كانت تحتل أجمل بقعة في الخرطوم، وتشكل جزءا اًصيلا من الخرطوم التاريخية، إلا أن هناك حيين من أحيائها كنا نحن الريفيين نتفادى مجرد المرور بهما، وهما الخرطوم 2 و«امتداد الدرجة الأولى»، وهو أول حي في السودان يتألف من فِلل من طابقين أو ثلاث، ولأن الخرطوم لم تكن وقتها تعرف متى يستحق مبنى مسمى عمارة فقد اطلق الناس على ذلك الحي اسم «العمارات» رغم أنه لم تكن به عمارة واحدة، (مازلت في السودان تجد شخصا عنده بناية من طابقين على مساحة 120 متر مربع ويتكلم عن «عمارتي»)، وكثيرون لا يعرفون لماذا يوجد في العاصمة السودانية حي اسمه الخرطوم 2 وآخر اسمه الخرطوم 3، فهذان الرقمان يوحيان بأنه كان هناك حي اسمه الخرطوم 1 (واحد)، ولكن الواقع هو أن منطقة قلب الخرطوم من مباني جامعة الخرطوم شمالا وحتى مستشفى الخرطوم جنوبا ثم جامع فاروق (الجامع الكبير) كانت هي «كل» الخرطوم، ومع التوسع العمراني ظهر حي راقٍ يسكنه كبار الموظفين والتجار وصار اسمه الخرطوم 2، ثم تم توزيع قطع سكنية لشرائح مختلفة من سكان العاصمة وأطلقوا على هذا الامتداد للمدينة اسم الخرطوم 3، وبالطبع كانت هناك أحياء عريقة مثل بُرِّي والكلاكلة حافظت على أسمائها، ومن المؤكد أنه لو مد الله في أيام البريطانيين في السودان وتوسعت عاصمة البلاد أكثر فأكثر لما استوردوا للأحياء الجديدة أسماء لا علاقة لها بالبلاد مثل المنشية وغاردن سيتي والطائف والرياض والمعمورة.. يا جماعة الإنجليز تركوا لأهل البلاد حرية اختيار أسماء أحيائهم بدليل أنهم سمحوا بإطلاق اسم كوريا على أحد الأحياء، وجاءت التسمية تعاطفا مع كوريا الشمالية التي تعرضت لغزو أمريكي بمناصرة بريطانية، فجاءت الأغنية الشعبية المعروفة: الله لكوريا يا شباب سوريا (وكان السوريون وقتها قد شددوا النضال ضد الاستعمار الفرنسي ولم يكونوا يعرفون أنهم سيخضعون لأكثر من نصف قرن للاستعمار «الأسدي»). وهناك مواقع في الخرطوم ظلت حتى بعد خروج المستعمر البريطاني تحمل اسماء إفرنجية، فقد كانت هناك مثلا، صالتا جي. إم. إتش (غوردون موزيك هول) وسانت جيمس، وكانتا حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي تجلبان فرق الرقص الأوربية التي تلبس راقصاتها «هدوم زي قلِّتها» وتجري فيهما الخمور الأوربية أنهارا (هذه شهادات سماعية ولو رهن موظف ملابسه وساعته ونظارته لما تمكن من توفير قيمة تذكرة دخول اي من الصالتين)، وحتى عام 1983 – وهي السنة التي صار فيها رئيس الجمهورية جعفر نميري إسلاميا – كان هناك بار يطل على شارع القصر يحمل اسم جي. بي (غوردون/ز بار).. لاحظ أن الإنجليز الملاعين عمدوا لتخليد ذكرى غوردن حاكم السودان الذي قتله الثوار السودانيون بقيادة محمد احمد المهدي ابتداء بكلية غوردن التي تحولت إلى جامعة الخرطوم وانتهاء بالخمارات والمراقص ومرورا بالمختبر الطبي المركزي الذي مازال يحمل اسم «ستاك».. السير لي ستاك الذي كان حاكم عام السودان واغتيل في القاهرة في نوفمبر 1924. جعفر عباس [email protected]