يوافق اليوم الخميس أوّل أيام الحج «الستة» التي يتنقل فيها الحجيج بين المشاعر «منى وعرفة ومزدلفة ومكة»، فاليوم الخميس هو اليوم «الثامن من ذي الحجة» وهو يوم «التروية» ثم يليه التاسع وهو يوم «عرفة» الذي فيه الركن الأعظم للحج، ثم يليه اليوم العاشر وهو يوم «الحج الأكبر» إذ تعمل فيه جملة من أعمال الحج منها: رمي جمرة العقبة التي إذا رماها الحاج توقف عن التلبية وشرع في التكبير الذي يستمر حتى نهاية أيام التشريق وفيه والنحر والحلق وطواف الإفاضة والسعي للمتمتع أو المفرد والقارن الذي لم يسع مع طواف القدوم، ويليه اليوم الحادي عشر وهو يوم «القر» حيث يقر الحجيج بمنى ويستقرون فيها، ثم يليه اليوم الثاني عشر وهو يوم «النفرة الأولى» حيث يخرج المتعجلون من منى وينتهي حجهم بطواف الوداع، ثم يليه اليوم الثالث عشر وهو يوم «النفرة الثانية» وفيه يرمي المتأخرون الجمرات ثم ينفرون إلى البيت، هذا بالنسبة للحجيج أسأل الله أن يتقبل منهم وأن يجعل حجهم مبرورا وذنبهم مغفورا ويردّهم إلى أهلهم وديارهم سالمين غانمين. وأما غير الحجيج فإنهم لا يزالون في أيام الخير وأفضل أيام السنة الأيام العشرة المباركة، وغداً يصومون بتوفيق الله احتساباً لأجر تكفير سنة ماضية وسنة باقية والله واسع عليم ذو الفضل العظيم.. ثم يليه يوم الأضحى وفيه صلاة العيد وهي شعيرة عظيمة، ثم التقرب إلى الله بإراقة الدماء وهو من أعظم القربات والطاعات «فصلّ لربك وانحر».. واستمرار التكبير حتى نهاية أيام التشريق ويكون مقيّدا عقب الصلوات المفروضات، فيا له من موسم كريم وعظيم من مواسم الخيرات والبركات ومضاعفة الأجور ومغفرة الخطايا والزلات.. وحيث هي أيام للتزود فإني أعظ نفسي وإخوتي القراء بهذه الموعظة التي أرجو أن يكون لها الأثر الجميل في التذكير بأهمية التزود قبل الرحيل فأقول: كلنا سنرحل من هذه الدنيا.. وسنلقى المصير الذي لقيه من قبلنا.. سنغادر هذه الحياة ونفارق الأحبة.. وننتقل إلى دار البرزخ إلى «القبر».. وليس لنا أن نفر من ذلك.. وصدق الحق سبحانه وتعالى القائل: «إنك ميت وإنهم ميتون».. والقائل: «وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد» والقائل: «أينما تكونوا يدرككم الموت».. وهذه الحقيقة هي أمر معلوم.. والنفس البشرية باختلاف أديانها وأعمارها وثقافاتها تدرك ذلك.. بل أن الأطفال الذين لم يصلوا سن التمييز على دراية بحتمية هذا الأمر.. فإننا سنلقى هذا المصير في العاجل أو الآجل. فسبحان القوي الذي نفذ أمره.. وتبارك من لا يرد قضاؤه .. وسبحان القاهر الذي لا ينقض حكمه.. والبشر يتساوون في هذه الحقيقة.. فكلنا حتماً مقضياً سنموت.. كل ابن أنثى وإن طالت سلامته*** يوماً على آلة حدباء محمول ولكن الفرق بين بني آدم في هذا الرحيل المؤكد، أنهم قد تباينوا في مستقبلهم بعد هذا الرحيل وفي آثارهم التي تركوها بعد هذا الرحيل.. «إن سعيكم لشتى». عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ» متفق عليه. إن العمل الذي يعمله الإنسان في هذه الدنيا هو الذي سيخرج به منها، وهو الذي سيكون سبباً في حياته البرزخية في قبره وحفرته ثم حياته الأخروية.. فإذا كان العمل هو الذي سنخرج به من هذه الدنيا فحري بنا أن نجتهد وأن نكثر من أعمالنا الصالحة التي هي السبب لأن يرحمنا الله تعالى ونحن بأشد الحاجة إلى ذلك في ظلمة تلك الحفرة الموحشة، حيث لا قريب ولا حبيب أو صديق.. في ظلمة القبر لا أمٌ هناك ولا *** أب شفيق ولا أخ يؤنسني هنيئاً لأهل الإيمان وطاعة الرحمن بهذا الوعد الذي ينتظرهم من الكريم الرحمن، فمن حفظ الله حفظه الله «احفظ الله يحفظك».. ومن ذكر الله ذكره الله «فاذكروني أذكركم»، وفي المقابل فإن من نسي الله نسيه الله «نسوا الله فنسيهم» «نسوا الله فأنساهم أنفسهم».. والجزاء من جنس العمل.. ولا يظلم ربك أحداً.. بل إنه يحسن الجزاء ويضاعف الأجر «وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً».. وهذه الحقيقة الثابتة الراسخة يوجب العلم بها أن نجتهد غاية وسعنا وأن نبذل كل طاقتنا لأن نترك قبل رحيلنا آثاراً طيبة، يطيب بها ذكرنا من بعدنا، ويأتينا في قبورنا حسنات تترتب عليها.. قال نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام: «مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيءٌ « رواه مسلم وغيره. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، منها حديث من دعا إلى هدى... ومن دعا إلى ضلالة... ومنها الحديث الصحيح المشهور في إفادة انقطاع العمل بالموت إلا من ثلاث: علم ينتفع به أو صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له.. إن الموفقين من عباد الله هم من يدركون حاجتهم الشديدة لهذه الأعمال الصالحة وهم من يجتهدون في أن تستمر أعمالهم الصالحة حتى بعد فراقهم هذه الدار الزائلة الفانية .. فهنيئاً لمن تأتيهم في قبورهم كل يوم مئات وآلاف بل ملايين الحسنات.. فأنعم بها من أنفس كريمة.. وأكرم به من اجتهاد وتوفيق. وتاريخ هذه الأمة العظيمة يزخر بالنماذج المشرقة في حياتها العملية، والكتب ثريّة بالوصايا الكريمة العظيمة، والتوجيهات الصادقة المؤثرة في الحث على الاجتهاد في هذا الأمر، والحاجة ماسة لأن تنشر الآثار المباركة التي اجتهد العلماء والعباد والصالحون في هذه الأمة في تحقيقها وتركوها من بعدهم، وحتى لا تنقطع أعمالهم بفراقهم الدنيا وقد أدركوا أن أيامهم وساعاتهم فيها قليلة!! وهذا من الزاد الذي أمر الله عباده المؤمنين بالحرص عليه، فقد قال الله تعالى في آخر آيات الحج من سورة البقرة: «وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب» .. وختم الله تعالى الآية بمخاطبة «أولي الألباب» وبذلك نعلم أن أولي الألباب وأصحاب العقول السليمة الصحيحة هم من يوفقون إلى استثمار أيامهم في التزود بالإيمان والأعمال الصالحة.. فهنيئاً ثم هنيئاً لكل من رحل عن الدنيا وقد وفق في سيره بها إلى الإيمان بالله تعالى والأعمال الصالحة والبعد عن كل ما يغ ضب الله تعالى.. فإن التوفيق كل التوفيق أن يوفق العبد لأداء ما خلق لأجله، وهو حقيقة الاستخلاف في الأرض.. القيام بعبادة الله وطاعته والسير على الصراط المستقيم.. أسأل الله أن يرحمنا برحمته الواسعة، وأن يفتح لنا من أبواب الخير وطرقه، وأن يجعلنا ممن يتركون آثاراً طيبة بعد رحيلهم يأتيهم بسببها الحسنات الكثيرة والأجر العظيم في دار البرزخ، وترجح بها موازينهم يوم القيامة.. وأن يوفقنا لاغتنام موسم الخير وأن يرد الحجاج سالمين غانمين موفقين.. إن ربي بر رحيم.. وإنه جواد كريم. صحيفة الانتباهة