*مضى على غيابه 25 عاماً، لا أدري لماذا تذكرته الآن؟! *أيها المترع بالطفولة كنت أغبط نفسي على معرفتي بك في هذه العاصمة.. *التي غمست وجهها في أدوات التجميل! *أن ألتقيك وأنت تهوم كفراشة، كانت تلك من لحظات السعادة النادرة. *ولكن يبدو أنني كنت موعوداً بالفرج الموءود! *عبر سكون المكتب انطلقت الكلمات من فم الزائر في ذاك النهار الملتهب. *(حسن المنصور توفي في حادث حركة). *لحظتها كنت أعتقد أن حاسة السمع لدي قد ضعفت وأن الاسم المذكور ليس له أي علاقة بك. *ولكنني تأكدت بعدها أنك قد رحلت بالفعل، وتلك كانت لحظة زلزلة.. *من الذي احتضر، أنت أم العصر الذي كنت تعيش فيه؟ *لقد افترس الموت طموحاتك الأخيرة ولم يتركك حتى لتمشي فيها خطوة واحدة. *كانت الهجرة من هذا الوطن هي الأفق الذي تطلعت إليه بحثاً عن نشيد إنساني لا تضيق فيه سبل العيش. *وكم كنت أردد لك هذا البيت من شعر الزهاوي: (إنا غريبان ها هنا وكل غريب للغريب نسيب)! *بالرغم من رحيلك.. كنت أفتش عن وجهك بين الوجوه التي كانت تقف بالمحطة الوسطى بأم درمان كل صباح.. ألم يقل جان كوكتو: “إن الشعراء يتظاهرون بالموت فقط!”؟ * أبحث عن ملامحك وابتسامتك وانطلاق ضحكتك في حبور وأنت تشاهدني في محاولة لتسلق عتبة باب بص وأفشل في الوصول حتى العتبة الأولى.. *وتقنعني بأن ننسحب بهدوء من هذا الهدير البشري إلى تلك (القهوة) لنرتشف كوبين من الشاي.. *على كرسيين وحيدين فقدا أرجلهما الأمامية من ثم كان الكرسيان يتوكآن علينا!! *يربت على كتفي، وهو يقول: “إن ما نقرأه من شعر بالصحف والمجلات لدينا يشبه حال هذه الكراسي!!”. *وأنتظرك لعلك تخرج فجأة من بين هذه الجموع المنتظرة (المواصلات) متشحاً بضحكتك.. *وأصرِّح لمن يعرفونك بأن رحيلك عنا ما هو إلا إجازة مؤقتة ولكن.. *لم تكن عتبة ذاك البص وحدها هي التي لم أستطع تجاوزها وإنما عتبة ذلك المقهى أيضاً التي أضحت في غيابك جبلاً شاهقاً! *أعترف أنني لم أعايشك بالقدر الكافي الذي أستطيع فيه الحديث بعد نهايتك الفاجعة.. *ولكن حسبي تلك الأوقات التي اصطفيتني فيها مرافقاً.. ولم تضرب فيها قبة لتستقر.. *كم هو متسع هذا الوطن ولكن كبرياءك كان أكثر اتساعاً.. *أن تؤاخي بين النبض والدم ذلك كان ديدنك.. *ولم تستطع (القُرحة) أن تقف حائلاً أمام معانقتك للأمسيات الشعرية.. راجلاً تأتيها وراجلاً تؤوب منها!! *كنت مثل ذاك الرجل الذي حكم عليه بالإعدام بالشنق في عهد الثورة الفرنسية.. *وكان يقرأ كتاباً عن سوفوكليس.. وكانت ينتظر دوره.. *وعندما حان دوره ليصعد فوق منصة الإعدام.. *قام بثني الصفحة التي كان يقرأ فيها وصعد.. *وكأنه سوف يستمر في القراءة !!