الاستراتيجية، التي كانت الأخبار طيلة الأشهر الأخيرة تتحدث عن قرب إعلانها في البيت الأبيض، أثارت بعد إعلانها ردات فعل عديدة في الداخل، وصف بعضها الاستراتيجية الجديدةلواشنطن إزاء السودان بالإيجابية، بينما تسببت نقطة الحديث عن الإبادة الجماعية في دارفور، والإشارة لضرورة تعاون الخرطوم مع الجنائية التي تضمنتها الاستراتيجية، في إستياء البعض والتقليل من إمكانية أن تشكل الخطوة الجديدة تحولاً ذا شأن في مسار العلاقات بين البلدين. وغير بعيد عن هذه الأجواء التي أعقبت إعلان واشنطن عن النقاط الأساسية التي ستحكم تعاطيها مع الشأن السوداني في المرحلة القادمة، نظمت مستشارية الأمن القومي ورشة حول العلاقات السودانية الامريكية، وفد إليها الفريق صلاح عبد الله قوش مستشار رئيس الجمهورية للأمن القومي، ومسئولون بالخارجية، وأمنيون، وقادة سياسيون، ومهتمون وإعلاميون، للتداول حول ما أعلنته واشنطن، بسلبياته وإيجابياته. الأوراق العديدة التي قدمت في الورشة، والنقاش الذي تخللها، انصب الحديث خلالهما على محاولة تعريف الاستراتيجية التي كشفت عنها واشنطن، وقراءة توازنات القوى الأمريكية الداخلية التي تعكسها، وعلى ما يمكن للخرطوم أن تفعله، قبل أن يقترح الحاضرون مجموعة من التوصيات، بغرض الدفع بها إلى قيادة الدولة، وإلى د.غازي صلاح الدين مسئول ملف دارفور وبالتالى الولاياتالمتحدة . السياسة الأمريكيةالجديدة بالنسبة لأمين حسن عمر القيادي بالمؤتمر الوطتي كانت عبارة عن تسوية بين المعتدلين والمتطرفين داخل الإدارة الأمريكية، وقال أمين إن المتطرفين ليست لديهم قدرة على فرض عقوبات إضافية لأنهم استنفدوا كل ما لديهم وفوق هذا توازن القوى الداخلى لا يسمح لهم بذلك، لذا تضمنت الاستراتيجية ما يلبي مطالب المعتدلين، ولم تسقط أيضاً الإشارة إلى الإبادة الجماعية التي يتمسك بها المتشددون. المعتدلون، كما عرفهم البروفيسور أحمد البشير، هم المبعوث غرايشون ومؤيدوه، أما قائمة المتطرفين فتشمل شخصيات ومؤسسات عديدة، يمكن تصنيفها إلى ثلاث جماعات ضغط أساسية، اللوبي المسيحي اليميني، واللوبي الصهيوني، واللوبي الأفريقي، إلى جانب جماعة ليست بالقليلة تمارس نوعاً من الضغط للدفع باتجاه التشدد مع الخرطوم، قوامها السودانيون الذين غادروا البلاد لأسباب سياسية، ويرى بروفيسور البشير ضرورة فتح قنوات مع هؤلاء، ويقلل من دور اللوبي المسيحي اليميني الذي لا يمارس تأثيراً بذات القدر الذي يمارسه اللوبي الأفريقي، لحيثيات تمكن في الأبعاد الرسالية التي يشعر بها هذا اللوبي إزاء السودان، خاصة وأنه يعتبر نفسه صاحب دور رئيسي في إنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وتتشكل نظرته إلى ما يجري في السودان على وجود هيمنة تفرضها المجموعات العربية . ويذكر بروفيسور البشير الذي اقام بالولاياتالمتحدة لفترة طويلة، أن هناك بعض الشخصيات الأمريكية، من أمثال زعيم جماعة أنقذوا دارفور جون برندر قاست، وسوزان رايس، توجه لهم الدعوة باستمرار لحضور جلسات الاستماع داخل الكونغرس عندما يتعلق الأمر بالسودان، ويشير إلى اتصالات عديدة له بسكرتارية لجنة الشئون الخارجية لإفهامها بأن هناك خبراء آخرين غير هؤلاء يمكن للمجلس دعوتهم، وهي التوصية التي لم يعمل بها الكونغرس على الإطلاق، ما يعكس نفوذ هذه الشخصيات، ويضيف أن برندر قاست أخبره بأن لديه اعتقاداً جازماً بأن حكومة الخرطوم لا تتحرك إلا تحت الضغط. النقطة المهمة التي أثارها بروفيسور البشير، هي أن ما أصطلح على تسميته بالاستراتيجية ليست في واقع الأمر سوى مذكرة نقاط، في الجزء المعلن منها على الأقل، وأنها موجهة إلى أكثر من جهة، منها جماعات الضغط المختلفة داخل الولاياتالمتحدة، وجهات دولية، وجهات داخل السودان، ما يعني أنها حاولت مخاطبة رغبات ومصالح عديدة. قراءة د.لام أكول وزير الخارجية السابق ورئيس الحركة الشعبية للتغيير الديمقراطي تمضي إلى أن الاستراتيجية خليط من وجهات النظر، ولا تخلو من تناقض، كما أنها تضمنت ثلاث نقاط جديدة، هي التركيز على الانخراط في التعاطي مع الشأن السوداني، ومخاطبة اكثر من طرف، والإشارة إلى جوانب يجب إصلاحها في الجنوب لاستمرار اتفاقية السلام، ويرى د.لام أن التعقيدات في علاقات الدين سببها الموقف العدائي لواشنطن من الحكومة السودانية خلال فترة التسعينيات، وبقاء آثار هذا العداء حتى المرحلة الراهنة، وما يعشعش في ذهن البعض حول ضرورة تغيير النظام في الخرطوم ليس عبر القوة هذه المرة، بل عبر الانتخابات أو أدوات كالمحكمة الجنائية الدولية، ويفترض د.لام أن مثل هذه المحاولات لم يكن لها أن تحدث لو أن الشريكين كانا على وفاق. للاستراتيجية الجديدة ملحق سري خاص بحزمة المحفزات والضغوطات، ووفقاً للسفير نصر الدين والي مدير إدارة الأمريكتين بالخارجية، فإن المبعوث غرايشون أخبر سفير السودان في واشنطن عقب إعلان الاستراتيجية بأن دعوة الحركات المسلحة للتفاوض هى ضمن حزمة المحفزات، فيما ترتبط الضغوط بأن يثبت وجود علاقة للخرطوم بحماس أو سوريا أو إيران بشكل يضر بالأمن القومي الأمريكي، أو بوجود جوزيف كوني زعيم جيش الرب اليوغندي المتمرد داخل الاراضي السودانية بعلم الحكومة، ويعتبر والي أن بصمات غرايشون الإيجابية واضحة في الاستراتيجية، وأنه نجح في تضمينها سمات إيجابية تخفف من حدة أثر المتشددين الذين كانوا قد وضعوا استراتيجية خاصة بهم في مجلس الأمن القومي قبل أشهر، إلا أن استراتيجيتهم هذه خضعت للتعديل بعد دخول غرايشون على الخط. أحد الناشطين السياسيين الامريكيين، يبدو من بدلته السفاري الخضراء أنه أقرب إلى النشاط الأمني منه إلى السياسي، قال إن خلفياته جمهورية لكنه متابع لقضايا السودان الذي زاره أكثر من ست عشرة مرة، وتحدث عن صلاحيات غرايشون المستمدة من علاقته المباشرة بأوباما، قبل ان ينصح الخرطوم باتخاذ إجراءات سريعة تحسن الأوضاع على الأرض، وتحسين العلاقة بين الشمال والجنوب. توصيات الورشة التي اعتبرها المتداولون بمثابة نقاط أولية لاستراتيجية معاكسة غلب عليها طابع الإيجابية، إزاء سياسة أمريكية جديدة قرر الحاضرون فيما يشبه الإجماع أنها إيجابية، وأن الإشارة إلى الإبادة الجماعية فيها هي تقليد سياسي أمريكي لإرضاء جماعات الضغط، وأن الحديث فيها عن الجنائية كان عابراً وهامشياً، وتضمنت التوصيات ضرورة الحفاظ على التفاعل الإيجابي مع واشنطن، والعمل مع جماعات الضغط المؤيدة والمعارضة، واستصحاب موقف الحركة الشعبية ومبادرة أهل السودان في مفاوضات الدوحة، وتنشيط آليات تنفيذ اتفاقية نيفاشا، والعمل على تحسين صورة السودان داخل أمريكا، وتوحيد الخطاب السياسي للدولة، والإستفادة من السودانيين الامريكيين، وتوصيات أخرى. تلك التوصيات تم تبنيها بسلاسة، بعد أن انقسم المشاركون إلى ثلاث مجموعات تعكف على محور العلاقات الثنائية، ومحور دارفور، ومحور اتفاقية السلام، وفوضت كل مجموعة شخصاً يقف على المنصة ليتلو اقتراحاتها، وللمفارقة، فإن ممثلي المؤتمر الوطني، الشريك الأكبر في الحكم، كانوا قليلين، ليس ذلك فحسب، بل أن أحد الحاضرين أعترض على توصية بالعمل على كشف عدم جدية الحركات في نحقيق السلام وتوافق مواقفها مع أجندة خارجية، وطلب استبدالها بتوصية تنص على حث الحركات على التفاوض، وعندما رجعت المنصة إلى د.محمد المهدي مندور أمين الاتصال السياسي بالوطني، تقبل بسرعة، وعلى غير المتوقع، التوصية الجديدة، ورغم أن هذه التوصيات ستخضع لإعادة صياغة بواسطة سفير في الخارجية، ثم ترفع إلى القيادة التي تتعامل معها وفق تقديراتها الخاصة، إلا أن الواقعة على محدوديتها، ربما تؤشر إلى تصاعد الميل إلى المرونة والتعاطي الإيجابي في الخرطوم، بقدر ما تتصاعد المرونة هناك في واشنطن.