يتفق السودانيون على بعض الصفات للشخصية السودانية، ومنها أنها شفاهية، تحكي وتروي الأحداث والوقائع والأحداث التاريخية شفاهة، دون كتابة أو تدوين، ولهذا ضاعت أجزاء هامة من تاريخنا، وشوه المؤرخون المغرضون بعضها، وروى المنتصرون أو المشاركون في بعض الأحداث، بعض أجزاء التاريخ من وجهة نظرهم وجيروا كل الوقائع لصالحهم. وحتى في وقتنا الحاضر لا تزال عملية التاريخ والتوثيق مشكلة حقيقية، ولهذا يسعد الناس حين يجدون فردا أو مؤسسة تنهض بعبء التوثيق والتاريخ لجانب معين من جوانب حياتنا، وتسجل وقائعه بعلمية ومنهجية. بين يدي ثلاث كتب من إصدار مؤسسة التراث الطبي السوداني، تؤرخ لرواد مهنة الطب في السودان، وتسجل أهم منجزاتهم ومراحل تاريخهم، بروفيسور داؤود مصطفى، بروفيسور أحمد محمد الحسن، بروفيسور عبد الحميد إبراهيم سليمان، بجانب كتابين في المطبعة عن البروفيسور محمد حمد ساتي والدكتور الهادي أحمد الشيخ. وهؤلاء ليسوا مجرد أطباء، ولا يتم التاريخ لهم بحكم الأسبقية الزمنية فقط، ولكنهم نماذج وقدوة في زمن عز فيه القدوة. وهم أصحاب انجازات مهنية وبحثية باهرة، وسيرة عطرة بالعمل المخلص المتجرد من اجل المهنة والوطن. يعتبر البروفيسور داؤود مصطفى (1917-2008) واحدا من معالم التعليم الطبي في السودان فقد أنفق65 عاما من عمره في هذا المجال، ولم يبخل بعلمه على أبنائه الطلاب حتى آخر يوم في حياته. وانفق البروفيسور أحمد محمد الحسن عمره في بحوث أمراض المناطق الحارة وأبحاث السرطان والتعليم الطبي، ولا يزال يعطي في مجال أبحاث الأمراض المتوطنة. أما البروفيسور عبد الحميد إبراهيم سليمان فهو سجل حافل من الإنجازات التي يصعب حصرها، رغم انه أتى لمهنة الطب من خارجها، فهو كيميائي في الأصل، لكنه صاحب إسهام واسع في تأسيس ووضع السياسات الصحية في البلاد، إلى جانب إسهاماته في الصحة البيئية وخدمات المعامل بجانب البحوث والتعليم الطبي ومهنة الصيدلة في السودان. هذه قطوف من معلومات جمعتها من تقليب هذه الكتب التي أصدرتها مؤسسة التراث الطبي السوداني. وحتى لا ينخدع أحد فهذه المؤسسة عبارة عن شخص واحد هو البروفيسور احمد الصافي أستاذ علم التخدير والباحث والكاتب الذي لا يمل من المبادرات المتعلقة بالصحة ومهنة الطب في السودان. فهو أيضا مؤسس ومدير مركز مهارات للتدريب الطبي، وهذا حديث آخر طويل سنفرد له جانبا آ خر. لم يكتف البروفيسور أحمد الصافي بان يكون طبيبا وأستاذا جامعيا، لكنه مغرم بالبحث والتوثيق، وله إسهامات كبيرة في مجال تدوين وتوثيق تجربة الطب الشعبي في السودان، وحقق بعضا من أعمال الدكتور العلامة التجاني الماحي، الهرم الذي قال عنه عبد الله علي إبراهيم يوما أن نساء السودان لو عرفن قدره لاستخدمنه في النديهة \"تلحقنا وتنجدنا\". وحمل بروفيسور الصافي على عاتقه مهمة التوثيق والتدوين لرواد مهنة الطب في السودان بكل جدية، وهاهو بعد الكتب الأولى يعد كتابين تحت الطبع عن البروفيسور محمد حمد ساتي والدكتور الهادي احمد الشيخ. ويا لحسن حظ مهنة الطب ومسيرة التعليم الطبي في السودان أن قيض الله لها شخصا في مكانة وإصرار البروفيسور احمد الصافي، ونسأل الله أن يقيض مثله لمهن ومجالات أخرى في حياتنا وحياة بلادنا، فقد أنعدم جهد المؤسسات، بل وانقرض، وصرنا نعول على مبادرات الأفراد، على قلتها. الأخبار