أقرب إلى القلب: سَلْوى جِبريْل: دبلومَاسيّةٌ سُودانيّةٌ مِنْ دَوْلةٍ أُخْرى؟ جمال محمد إبراهيم [email protected] ( 1 ) جمعتنا جامعة الخرطوم في آخر عام في ستينات القرن الماضي، ولكن لم تتوسع صلاتنا ولم تتعمّق، برغم صغر مساحة الجامعة وتجاور كلياتنا وقتذاك، إلا حين تسللنا من أماكن عمل عديدة، وعبرنا بوابة الدخول إلى وزارة السيادة الأولى : وزارة الخارجية السودانية في منتصف سبعينات القرن الماضي. كانت للمؤسسية قدسيتها، وللمؤهلات اعتبارات راسخة، وللقدرات عيون ترصد مقاديرها وتجيد تقويمها. لا ينسى الواحد منا – أو الواحدة إذ كان للجندر مكاناً مقدرا - ذلك اليوم الذي دلفنا فيه لمقابلة لجنة المعاينة، وتلك كانت آخر مراحل التقييم ، يجري بعدها اعتماد قبول الدبلوماسيين الجدد. في مجلس المعاينة جمال محمد أحمد ، يحضر جلسة أو جلستين ويغيب. محظوظ من يسأله المعلم جمال. في الغرفة أيضاً والثابت في مكانه ، أسد الوزارة وفكّها المفترس، الراحل محمد ميرغني مبارك. معه رؤوس الخدمة المدنية الأشداء جالسون يحدقون بعيون فاحصة ، أكثرهم إثارة للخوف والرهبة، الراحل خبير الأعصاب والأنفس، د.حسبو سليمان، وإن كانت سمعته كشاعر رقيق، خففتْ بعض ما تجازعنا حوله من رؤيته المدققة ورواجم أسئلته المفاجئة. اللافت أنه لم يسأل أحد أحدا عن انتماءاته السياسية . . كنا جماعة مُميَّزة، كما ظلّ يرانا أكثر من سبقنا من الدبلوماسيين. الفضل معزيٌّ في ذلك لعبقرية الدبلوماسية السودانية ولمن كان يقوم على أمرها، ممن هم في مثل مقام الراحل جمال م. أحمد . لقد كانت تلك الدفعة من الدبلوماسيين الذين استدخلتهم الوزارة إلى ردهاتها وأروقتها ودهاليزها الغامضة، هيَ الأقرب إلى تمثيل جماع ألوان الطيف السوداني، عن استحقاق واضح وتمثيل أصيل . نور الدين ساتي ، سادن السودانوية من جهة ، وكمال كبيدة الخبير القانوني من جهة أخرى . عبد المحمود عبد الحليم الدبلوماسي الألمعي بولائه المغرق للمريخ من جهة وعلي قاقارين يرابض في الجهة الأخرى، هلالاً متفرداً في سمائه. ماريو أوتو أنطون، آخر الأقباط في دبلوماسية السودان، يلمع بتفرّد انتمائه في ذلك العنقود، يقابله كوال ألور – فرانسيس ، كما ظلت تناديه سلوى جبريل دائماً، وإلى جواره سايمون الحاج كلوسيكا . ولك أن تتمعّن في هذا الاسم الأخير وأيّ وحيٍ يوحي. زينب محمود السفيرة الأولى في دبلوماسية السودان تقيم في جهة ، وفي الجهة المقابلة : سلوى جبريل، بنت الجنوب الرقيقة مثل النسم . نعم سلوى جبريل أول دبلوماسية من السودان القديم ومن الجنوب النابض، تجلس الآن على كرسي وكالة التعاون الدولي في السودان الخلف (الجنوبي بعد يوليو القريب). حين يجلس إليها وكيل وزارة خارجية السودان السلف (الشمالي بعد التاسع من يوليو القادم) لا أعجب فحسب، بل أكاد أستنكر ما جاء به الاستفتاء ، فتلك النسبة عندي هيَ جفاف المفاصلة الجغرافية ، لا ندى الوجدان الواصل بين ثنايا التاريخ .سلوى جبريل، هل هي دبلوماسية من دولة أجنبية ؟ لو كان التاريخ متصلاً لا مبتوراً بفعل الفصل من الخدمة، لكانت سلوى هي وكيل وزارة الخارجية السودانية، وربما يكون صديقنا النبيل رحمة الله محمد عثمان نائباً لها، لو كان الحال كما ارتضاه الوجدان، وتوخينا سبل الرشد المطلوب لبناء الوطن واستنهاضه.. ( 2 ) لعلي افتقدتُ حساسية أحتاجها لفهم ملابسات ما طرأ على أحوالنا بعد نجاح مفوضية الانفصال الباترة، في إكمال مهمتها على الوجه الذي تمناه أهل الرغائب السوداء الخفية ، والنوايا \"البروتوسية\" الغادرة. فمن باب الصراحة أن أقرّ أني ما سعدت بما أسفرتْ عنه لقاءات وكيل الدبلوماسية في جوبا، مع رصفاء المستقبل القادم حينَ يحلّ يوليو2011. تقول الصحف أن وكيل الخارجية رحمة الله بحث مع الوكيلة سلوى جبريل أمرين، أولهما إنشاء مكتب اتصال لرئاسة وزارة الخارجية السودانية لتنسيق وجود السفارات والقنصليات في عاصمة الجنوب، وليكون نواة لسفارة السودان الشمالي في عاصمة السودان الجنوبي بعد التاسع من يوليو القادم. أما ثانيهما فيتصل بتسوية أوضاع الدبلوماسيين \"الجنوبيين\" وتحويلهم إلى السودان الجنوبي. وبرغم أن تفاصيل التفاصيل لم تتضح بعد بصورة نهائية ، حسبما أرى ، فلي أن أبدي ملاحظتين تتصلان بهذين الملفين ، أفصلهما فيما يلي : أولا : من المعلوم أن اتفاقية السلام الشامل تركتْ ملف السياسة الخارجية للسودان، ملفاً تعالجه الوزارة الاتحادية في حكومة الوحدة الوطنية ، ولكن بفهمٍ واضح هو أن الاتفاقية قد نادت بأن يعمل طرفا الاتفاقية، على جعل الوحدة بين الشمال والجنوب جاذبة وممكنة . إذاً فمن البديهي أن يكون لوزارة الخارجية، دورها في بلورة سياسة خارجية تصبّ بمضامينها وبآلياتها وأساليبها، لخدمة هذا الهدف السامي. كان على وزارة الخارجية أن تنشيء مكتب اتصالٍ لها في جنوب السودان، مباشرة بعد دخول اتفاقية السلام الشامل حيّز التنفيذ منتصف عام 2005، لا أن تبادر بعد أن وقع الانفصال في 2011، لإنشاء ذلك المكتب ، أم هو مما يقع في باب \"ما يجيء متأخراً خير مما لا يجيء أبداً \" ؟ وللمراقب أن يستنتج ما كانت عليه حال النوايا- سواءً من هذا الطرف أو ذاك- وإن كانت صادقة التوجّه، أم غارقة في الريبة والتوجّس. . ؟ غير أني بصريح العبارة، لا أحسّ ارتياحاً لهذا التأخير واللعب في الوقت الضائع لإنشاء مكتب اتصال يمثل وزارة الخارجية ، فيما المطلوب أن نعلن عن النية لإنشاء سفارة بمواصفات وزارة صغيرة، تعالج التكامل المستقبلي المرجوّ بين الدولة الخلف والدولة السلف، وأن تعهد إدارتها منذ الآن إلى دبلوماسيين أكفاء من وزارة خارجية السودان \"الشمالي\". التقليد الذي اتبعته بريطانيا، حين مالت سفينة السودان في خمسينات القرن الماضي إلى الاستقلال، أنها أنشأت، وبالتشاور بين الخارجية البريطانية والحاكم العام في الخرطوم، مكتباً للاتصال تحت إشراف الحاكم العام نفسه، وتحوّل هذا المكتب إلى سفارة لبريطانيا، بعد إعلان الاستقلال في أول يناير 1956، فيما ظل المكتب الخاص تابعاً لمكتبه أيضاً، ويعالج العلاقات الخارجية، ثمّ تحول في يوم الاستقلال، ليشكل أول وزارة خارجية للسودان المستقل. أما مصر تحت حكم عبد الناصر، فقد بعثت بأحد أكبر جنرالاتها ، وكأنه عضو مجلس ثورة ، ليكون سفيرها في الخرطوم: اللواء محمود سيف اليزل خليفة ، صهر آل العتباني في الخرطوم. الذي أراه أنه لا حاجة للسودان \"الشمالي\" في هذه الأشهر الانتقالية، إلى التدخل في ترتيب أوضاع التمثيل الأجنبي في السودان \"الجنوبي\"، الدولة الجديدة، بل هي بكاملها من مسئوليات الوزارة الوليدة في جوبا. علينا في الدولة \"السلف\" في الشمال، أن نرتب بحصافة ورشد وبقراءة عميقة، قضايا الوطن الأكبر، ونستدني نِعَم المواطنة المشتركة في وطن التنوّع، ونصوغ مواصفات سياستنا الدبلوماسية بعد قيام الدولة \"الخلف\" في الجنوب . ( 3 ) ثاني الملفات التي جرى بحثها في لقاء سلوى / رحمة الله ، هو ملف دبلوماسيي وزارة الخارجية في \"السودان السلف\" من الجنوبيين، وهو الملف المرشح لالتباسات وتعقيدات ، لن يكون ميسوراً تسويتها . وإذا لم يقع حسم الجوانب القانونية المتصلة بالمواطنة والجنسية لمواطني \"السودانين\" ، الشمالي والجنوبي، فلن يكون من المناسب القفز إلى تحويل كل السفراء والدبلوماسيين من \"الجنوبيين\"، إلى وزارة خارجية السودان \"الجنوبي\" بحلول التاسع من يوليو2011 ، بجرة قلم واحدة وكأنّ العملية أشبه بتخلّص من أعباء ثقيلة . كلا . لن يرى العاقل أن ما أقرّه استفتاء الانفصال، هو إقرار ضمني بنزع الجنسية والمواطنة، وقد كانت ضمن استحقاقات \"السودان السلف\"، إذ هنا تتداخل قصص التلاقي الوجداني والتاريخ المتقاطع، والذي لن تمحوه مقررات مفوضية الانفصال بدمٍ بارد، تحت بصر الرقابة الدولية. لابد من إعمال النظر في القوانين التي ظلت تحكم أحوال الجنسية والمواطنة، منذ أولى محاولات تأسيس معايير حق المواطنة في العقود الأولى من الحكم الثنائي. لقد صدر قانون تعريف من هو \"السوداني\"، وقد أقرّ في 15 يوليو 1948، حيث وضع أول المعايير التي اعتمدت لتعريف \"السوداني\"، وجوّزت الصلاحيات لوزارة الداخلية لمنح الجنسية السودانية ، لمن أقام قبل 31ديسمبر 1897 (أي قبل غزو كيتشنر للسودان)، كما جوّزت منحها لمن أقام لأكثر من عشرة أعوام، إقامة متصلة في البلاد. جدير بالنظر أيضاً، قانون الجنسية الصادر في 26 مايو 1957، تحت الرقم 22، وقد أقرّ معايير منح الجنسية بالميلاد وبحكم الإقامة لفترة متصلة، في حدود الأعوام العشرة، كما جوّز منحها في حالات الزوجات الأجنبيات، وحالات من يتحدث اللغة العربية (كذا!)، أو استثناء من لا يتحدث بها، إن كان مقيماً لأكثر من عشرين عاما. جرى تعديل قانون 1957 تحت الرقم 22 لعام 1970، والمسجل بالغازيتة الرسمية، تحت الرقم 1107 بتاريخ 15 يوليو 1970 ص 284.. ( 4 ) لنا أن نتذكر ما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأممالمتحدة عام 1948، في مادته الخامسة عشرة: - لكل فرد الحق بالتمتع بجنسية معينة، - لا يجوز حرمان أي شخص من جنسيته وإنكارها عليه أو حقه في تغييرها. لعل الشفافية تتطلب من إعلامنا وصحافتنا، أن تعمل جميعها على بسط المعلومات المتصلة بأحوال وحقوق ومعايير المواطنة، وطرحها في منابر الحوار. لن يكون أمر المواطنة مما يخفى في أضابير المختصين وحدهم، أو تتداوله مفوضيات تنأى بنفسها عن الشفافية، فيما تظل التوعية بهذه الحقوق الأساسية في ذاتها، من مطلوبات حقوق الإنسان، وجرى تضمينها في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بأقوى تعبير وأفصح لغة . هنا تختلج ثنايا الوجدان. هنا تتقاطع قصص التاريخ. هنا لن تستطيع مفوضية الانفصال، أن ترسل ملف على عبد اللطيف إلى السودان \"الجنوبي\" ، ولن تنفي عبد الفضيل الماظ من حيث كان وطنه، إلى حيث كان موطن جده ! كما لن يكون من المنطق نقل رفات من ووروا ثرى الجنوب إلى مواطن أجدادهم وأسرهم برابطة الدم في شمال السودان. كان يحدثني من أثق في سرده الشفهي، عن عبد الفضيل الماظ وعن بيت خالته في \"حوش\" جدّي أحمد في الفتيحاب، جنوبيأم درمان، وقد كان \"حوشه\" ملاذاً آمناً منذ واقعة كرري عام 1898، لنساء تقطعت بهن السبل، فيهنّ \"حواء\" خالة عبد الفضيل . نشأ الصبي الباسل وترعرع ودرس في \"خلوة الشيخ الأسيد\" في الفتيحاب، وكان والده الماظ عيسى قد عاد به بعد أن ترك الجندية في مصر، وأقام مع شقيقة زوجته \"حواء\" في الفتيحاب. من سيقتطع من التاريخ صفحاته ويعيد \"الماظ\" إلى موطنه في الجنوب. . ؟ من سيعيد تاريخ الشهيد و\"مكسيم\" الشهيد، من موطن استشهاده في موقع مستشفى النهر في قلب الخرطوم، إلى موطن أجداده برابطة الدم، بعيداً في الوطن \"الجنوبي\".. ؟ يتململ جدي في قبره لو وصلته القصة . . ( 5 ) نظرتُ مليّاً وقرأت عميقاً ما بثته الأنباء، عن لقاء وكيل دبلوماسية الشمال ووكيلة دبلوماسية الجنوب، في وطن واحد لا يقبل الوجدان ولا التاريخ، انفصال وتشظّي أطرافه، ولكن كم تمنيت أن ينبؤنى ذلك الوجدان وذاك التاريخ، أن زمليتي الدبلوماسية سلوى جبريل، وقد نفضت عنها غبار الصالح العام ، جلست وكيلة لوزارة خارجية السودان الشمالي، عن استحقاق. كم تمنيت ُ ولكن المنى عند مفوضيات الوهم محض سراب، إذ سلوى هي الآن وكيلة في دولة أجنبية وشيكة . لكن لو ذهب الحلم أدراج رياح الانفصال، فلا أقلّ من أن نحفظ شَعْرة الوطن قوية لا تقطعها تجاذبات التطرف، ولا توهنها غضباته الطارئة. لا بدّ إنْ أمعنّا النظر، مِن أن نرى في بقاء الدبلوماسيين \"الجنوبيين\" في أمكنتهم، محمدة توافق العقل وتتسق مع الوجدان الوطني السليم ، حيث أقاموا سنين أعمارهم بكاملها في وزارة خارجية السودان \"الخلف\"، وشكّلوا بصمة في تاريخ الدبلوماسية السودانية، وليس أقلّ من أن يكون لهم حقّ الاختيار في البقاء أو الذهاب. التقليد المتبع في الدول الراشدة، هو أن تمنح جنسيتها لمن يتمتع بميزات تحتاجها الدولة المانحة. ولعلها قناعتي وقناعة أكثر السودانيين، هي في أن يحفظ الحقّ لمن ارتضى أن يبقى في الشمال، من القيادات السياسية والفنية التي أقامت أعماراً كاملة وتحتاج خبراتها الدولة، وأن يحترم حقه في الإقامة واكتساب الجنسية، وهو حق يتفق ومقتضيات المواثيق الدولية المرعية، فيكون بقاؤه في \"الشمال\" ، مما يحفظ لشرايين الانتماء أن يجري فيها دم الوطن الواحد، مثلما تجري أمواه النيل الأبيض من جنوبه إلى شماله . . فيا دبلوماسية الوطن ، تمهّلي قبل إعمالِ السيف الباتر . . الخرطوم –12 مارس 2011