زاوية حادة من طفر طفرة... وقع فيها ...(1) جعفر عباس لا شك في ان المنتجات الالكترونية الحديثة جعلت حياة الناس أكثر سهولة، أنظر فقط الى التحولات التي طرأت بظهور الهاتف الجوال والانترنت، و ستعجب كيف كانت حياتك تسير قبل ظهورهما: متى كانت آخر مرة لحست فيها طابع بريد؟ وإذا كنت دون الثلاثين: هل سمعت بالتلغراف؟ أليس غريبا أن الفاكس راح فيها قبل أن يسمع به معظم سكان الدول ذات الاحتياجات الخاصة؟ سنحت لنا في السودان فرصة نادرة للبوبار والفشخرة عندما صار قطاع الاتصالات في بلادنا الأسرع نموا في العالم لعدة سنوات في مطالع القرن الحالي، ولم يحدث ذلك لأن السودان شهد طفرة تنموية أو صناعية، بل لأن شبكة الاتصالات عندنا كانت «منتهية» لنحو(40) سنة، ولم تكن هناك جدوى من إعادة تأهيلها ولهذا بدأنا من الصفر ولكن ? وبالضرورة ? من حيث انتهى الآخرون، وركزنا على أنظمة الهواتف النقالة ولجأنا إلى التكنولوجيا الرقمية وتركنا كيبلات الهواتف الأرضية مدفونة في المقابر التي حُفرت لها في الخمسينيات والستينيات، وفي أواخر سبعينيات القرن الماضي كان لدينا جهاز تلفون نحس في مكتب التلفزيون التعليمي، وتحاول الاتصال بشخص في ود نوباوي بأم درمان، أو السجانة في الخرطوم، أو حلفاية الملوك فيأتيك الرد: أهلا معاك سجن كوبر العمومي.. جميع المكالمات الصادرة من ذلك التلفون كانت تتجه الى سجن كوبر، ولحسن حظنا فإنه لم يكن يستقبل أية مكالمات من أية جهة.. ولا حتى من سجن كوبر. أجريت أول مكالمة هاتفية في حياتي وأنا طالب في مدرسة وادي سيدنا الثانوية عندما جاءني الصول بابكر وطلب مني التوجه الى مكتب الناظر.. رأى عم بابكر بوادر الانهيار العصبي في جسمي المرتعد، ففي ذلك الزمان لم يكن الطالب يدخل مكتب الناظر إلا لتلقي حكم بالإعدام (الفصل من المدرسة نهائيا)، أو عقوبة تعزيرية (الفصل المؤقت).. وكان الناظر وقتها الأستاذ خالد موسى رحمه الله، وكان له في طلاب «غادي» من اللفة ? أي من التواء النيل عند منطقة الشايقية فشمالا ? رأي في غير صالحهم.. وبدأت في قراءة «يس» ولكن وبسبب الخوف تداخلت آياتها مع «الزلزلة»، و»القارعة»، ولكن بابكر طمأنني بأنني سأذهب الى مكتب الناظر للرد على مكالمة هاتفية، ودخلت المكتب متماسكا بعض الشيء، وكنت قد رأيت في الأفلام كيف يمسك الناس بسماعة التلفون ويقولون: ألو.. فأمسكت بالسماعة وقلت: ألو.. قلتها عدة مرات، وفجأة سمعت الناظر يقول للصول بابكر: أعدل السماعة عشان الحمار ده يتكلم ويطلع من هنا، ..كنت ممسكا بالسماعة بالمقلوب.. وكان المتصل هو شقيقي عابدين ليبلغني بوفاة جدتي، واعترف ? بكل أمانة ? أن رهبة دخول مكتب خالد موسى مقرونة بفرحة استخدام التلفون لأول مرة طغى إلى حد كبير على حزني على حبوبة، وذاع خبر استخدامي للتلفون بين أبناء غادي من اللفة الذين حاصروني بالأسئلة عن التجربة الفريدة، وكان السؤال الذي يحير الجميع هو: كيف استطعت ان تتكلم مع أخيك في كوستي وأنت في شمال أم درمان؟ وفي السنوات الأولى لاغترابي في الخليج، كان التواصل مع الأهل بالبريد، وكنا نفضل البريد اليدوي على البريد أبو طوابع، وهكذا كان كل مسافر من مدينة خليجية الى السودان يحمل معه عشرات الرسائل ويقضي بضعة أيام لتوصيلها إلى أصحابها باليد، وكان من حسنات تلك الممارسة أنها كانت تتيح للمغترب الزوغان من بعض الطلبات من شاكلة «طهور الأولاد الشهر المقبل.. أرجو إرسال( 37) جنيها»، وذلك بالزعم بأن الرسالة لم تصل... أما اليوم فقد تأتيك مكالمة تتعلق بطهور الأولاد وتحويل (7 ) ملايين، ولا مجال للزوغان فلو لم ترد على المكالمة بسبب «التوجس» فإن المتصل يعرف أن هاتفك سيسجل وصول رسالة لم يتم الرد عليها، وقد يطخك بإيميل أو رسالة نصية لا سبيل لنكران تسلمها. الكلام أعلاه مقدمة لمقال آخر عن البلاوي التي ستحل على رؤوسنا بسبب الطفرات التكنولوجية، فما من طفرة إلا وفي طريقها حفرة. الراي العام