فى ظلال القوى الاسلامية العربية الصاعدة الى السلطة نظام المؤتمر الوطنى ... مجاراة واقع متغير او الطوفان سمية المطبعجى [email protected] أطل العام 2011 حاملا معه بشرى التغيير فى العالم العربى الذى وضعت بذرته بتونس فى ديسمبر من العام 2010 فكان زلزال الثورات العربية الذى اكتسح المنطقة مطيحا بثلاث حكومات عربية استبدادية فى كل من تونس و مصر و ليبيا ،فيما ظلت اخرى فى قمة فورانها كما فى سوريا و البحرين و اليمن ، و اخرى فى طور التململ ينتظر منها اللحاق بسابقاتها. .. فى تونس حاز (حزب النهضة الاسلامى) بزعامة راشد الغنوشى على 90 مقعدا من اصل 217 بما يعادل نسبة 40% من المقاعد فى الانتخابات التونسية ،صاعدا بذلك على رأس قمة الهرم بين القوى السياسية . و فى المغرب حقق (حزب العدالة و التنمية )الاسلامى فوزا كبيرا على منافسيه بفوزه ب107 من المقاعد من جملة 395 فى انتخابات مبكرة بعد مطالبات شعبية ... اما فى مصر فقد انجلى الموقف بحصد الاسلاميين لحوالى ثلثى المقاعد ،ويأتى (حزب الحرية و العدالة) للاخوان المسلمين فى الصدارة يليه (حزب النور) للسلفيين . فيما يمضى الموقف فى ليبيا على ذات المسار. على اثر صعود الحركات الاسلامية كسلطات حاكمة فى الدول العربية التى شهددت حركات التغيير ،يدفعنا ذلك الوضع مع غيرنا من البعض نحو التساؤل : ما التأثيرات التى يمكن ان تنعكس على السلطة الحاكمة فى السودان التى يقودها حزب ( المؤتمر الوطنى ) حزب الجبهة الاسلامية القومية ،من قيام الأنظمة التى تسنمتها قوى اسلامية كحلفاء جدد يمكن ان يساهموا فى توطيد اقدام النظام الحاكم فى السودان ؟ فى الوقت الذى يرى فيه البعض ان الدول العربية بالكاد تخوض الان تجربة سبقها فيها السودان بأكثر من عشرين عاما عندما تولت فيها الجبهة الاسلامية القومية السلطة متمثلة فى حكومة الانقاذ و انها ستمضى فى ذات طريق المعاناة و الصراعات التى يمر بها السودان بين القوى الديمقراطية والليبرالية من جانب و الاسلاموين من جانب اخر... ويضيف البعض ان تلك الحكومات ذات الطبيعة الاسلامية ستكون داعمة دون شك للسلطة الحاكمة فى السودان باعتبار قيامها كنظام اسلامى كان يتيما وسط الانظمة العربية قبل الثورات . وان تلك البلدان على أقل تقدير لن توفر ملاذات امنة و داعمة للمعارضين ينطلقون منها للانقضاض على الحكومة فى السودان .... لكن من جانب اخر برزت وجهة نظر اخرى موازية للوجهة الاولى لا تتفق معها ، فاصحاب هذا الجانب يذهبون بعدم تأثير قيام تلك الحكومات التى يتزعمها اسلاميين بتمكين وضعية الحكومة القائمة فى السودان . و يبدو ان هذا الجانب هو الأقوى اذا نظرنا الى الحجج الموضوعية التى يفرزها واقع الحال فى كل من هذه الدول من جهة، و السودان من جهة اخرى. فالمجموعات او التنظيمات الاسلامية التى صعدت و التى هى فى طريقها الى قمة السلطة ،كانت تعيش ظروفا مغايرة ، اذ ظلت طوال سنيها حركات نضالية معارضة للانظمة الاستبدادية القائمة الممتد عمرها فى معظمها لعشرات السنين . وقد صمدت تلك الحركات و التنظيمات الاسلامية الصاعدة ،ضمن اخرين ،امام كافة صنوف التعسف السلطوى . ولكننا فى ذات الوقت نجدها قد نشطت وسط المجتمعات مقدمة الدعم مؤسسة لصروح خدمية من مدارس و دور للرعاية ، بغض النظر الى ما ترمى اليه من أهداف ،بما يتوفر لديها من امكانيات مالية أى كان مصدرها ،كما فى مصر التى استفاد فيها الاسلاميين من عهد الانفتاح و نمكن الكثير منهم من بناء قوة رأسمالية ضخمة.. و قد تمكنوا من خلال تقديم تلك الخدمات من اثبات وجودهم بين القواعد فى المجتمع ،مدخرين بذلك شعبية تمكنوا من الاستفادة منها فيما بعد. كما ان الاسلاميين فى كافة الدول العربية التى تسنموا فيها السلطة لم يتولوا زمام المبادرة فى قيام تلك الثورات التى اكتسحت بلدانهم بهبات شعبية من قلب الشارع العام دون تنظيم من قوى سياسية ، فكانوا مثل غيرهم من تلك القوى متفاجئين بالثورات الشعبية و لكنهم شاركوا فيها فيما بعد بقوة. اما فى المقابل فان الاسلاميين فى السودان ،ممثلين فى الجبهة الاسلامية القومية ،فقد مارسوا السلطة و كانوا جزءا منها فى عهدين استبداديين . ... شاركوا فى حكومة مايو وكانوا الدافعين لوضع ما عرف بقوانين سبتمبر 83 سيئة السمعة، فى محاولة لفرض تطبيق مغلوط للشريعة الاسلامية و أسلمة المجتمع السودانى فى ذلك العهد الذى لم يتخلوا فيه عن السلطة سوى قبيل سقوط النظام بانتفاضة ابريل 1985 . ومع ذلك شاركوا للمرة الثانية فى عهد الديمقراطية الثالثة بعد اجراء عملية انتخابية تلت سنة انتقالية فاصلة بين العهد المايوى و فترة حكم الديمقراطية الثالثة 1986 ، حيث كانوا الحزب الثالث بعد حزبين تاريخيين . ومع ذلك لم يحتملوا الانتظار و الحفاظ على ذلك الوضع كمكسب يمكن الصعود به فى تطور طبيعى فى غمار الممارسة الديمقراطية ، فلجأوا الى الاستيلاء على السلطة و الانفراد بها بانقلاب عسكرى فى يونيو 1989 متسيدين نظاما وعهدا لحكم كان هو الأسوأ فى تاريخ السودان ،حيث القى بظلاله السالبة على كل مناحى الحياة ،الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و الثقافية . وبذلك ،كما يقول اصحاب وجهة عدم التأثير الايجابى على السلطة فى السودان ، تختلف حالة الاسلاميين فى السودان تماما عن وضع وحالة الحركات الاسلامية الاخرى فى الدول العربية التى اصبحت او بات من المرجح انها ستكون على رأس السلطة . فبينما كانوا فى السودان يديرون انظمة قمعية ، كان القمع يمارس ضدهم فى البلدان العربية الاخرى مما دفعهم للتطلع و التوجه و التجاوب مع الافكار و الدعوات العالمية الداعمة لنظرية الديمقراطية الليبرالية التى استحوذت على الفكر الحر المنطلق و الدعوة للحرية و حقوق الانسان ، فى الوقت الذى يمضى فيه الاسلاميين المستولون على السلطة فى السودان بهضم تلك المبادئ و الحقوق و اقصاء الاخرين . و يزداد الفتق بين هؤلاء و اولئك اذا نظرنا الى الطرق التى سيمضى فيها الاسلاميين المكتسحين للانتخابات الديمقراطية نحو قمة السلطة... ففى تونس فان التوجه الذى اعلنه رئيس (حزب النهضة الاسلامى) الذى حاز على 40% من المقاعد ،راشد الغنوشى هو العمل مع الاخرين لتطوير اركان التحول الديمقراطى الذى يفسح المجال للتداول السلمى للسلطة ،متعهدا بعدم التدخل فى الحريات الشخصية ودافع عن مطلوبات الوحدة الوطنية ... وعمليا قبل الغنوشى قانون الاحوال الشخصية الذى وضع فى عهد بورقيبة كما هو باعتباره اجتهادا فقهيا ، وشكل حزبه مؤسسات الدولة بحيث كان كل من رئيس الدولة و رئيس البرلمان من الاحزاب العلمانية ،فيما نصب رئيس الوزراء من النهضة لتتشكل الوزارات من احزاب التحالف المختلفة. وكان هذا المنحى ليس بالغريب على الرجل الذى وصف دوما بانه رجل وفاق بين مختلف التيارات السياسية . .. كما عرف الغنوشى بقراءته التجديدية للاسلام السياسى واحد المنادين بحقوق المواطنة ويؤمن بتساوى كل المواطنين فى الحقوق و الواجبات ، وقد ووجه برفض رؤاه تلك من قبل الاسلاميين غير التجديديين لصيغتها التحررية . و فى ذات المنحى يمضى الاخوان المسلمون فى مصر متمثلين فى (حزب الحرية و العدالة ) الذى حصد اكثر من ثلث المقاعد فى البرلمان المصرى و اعلن ان اولوياته فى التنمية و الاصلاح ومضى فى التحالف مع قوى ليبرالية غير اسلامية متمثلة فى الكتلة الديمقراطية و حزب الوفد . وقد وصفهم المتخصص فى الشئون المصرية بجامعة سيراكيوس ،جوشوا ستاشر بأنهم ملتزمين بالسلم المدنى ،و انهم جماعة براجماتية من الناحية السياسية تؤمن بالتطور المؤسساتى . و يأتى هذا التوجه مدعوما بوثيقتى وبيان الأزهر الشريف اللذين حظوا بالتفاف جميع القوى السياسية و فئات المجتمع و اصحاب دياناته المختلفة ، اذ نصت الوثيقة الاولى التى صدرت منتصف العام الماضى على الوفاق حول دستور يلبى تطلعات جميع فئات الامة .. فيما جاء فى الوثيقة الثانية التى صدرت قبيل ايام، التوافق حول ضمان الحريات الاساسية و الحقوق . غير ان التحدى الاكبر برأى المراقبين بالنسبة لمصر ظهور القوى السلفية متمثلة فى ( حزب النور) على نحو غير متوقع باحتلالهم المرتبة الثانية ،مشكلين معا و(حزب الحرية و العدالة) ثلثى مقاعد البرلمان ... ويشكل السلفيين بذلك الكم المجهول من المعادلة ، اذ ليس لديهم رصيدا سياسيا ولا رؤى سياسية واضحة سوى رؤى متشددة متعصبة تجاه المجتمع وفهم الاسلام ، وقد خلقوا بذلك اشكالا كبيرا فى منحى اتجاه (الحرية و العدالة ) لتكوين تحالف لتشكيل حكومة وفاقية تلبى اشواق التغيير الذى يتطلع اليه الشارع المصرى . ويفسر البعض ان بيان الازهر الذى صدر مؤخرا ما هو الا خطوة استباقية اراد بها الازهر و القوى الاخرى قطع الطريق امام ما تنوى الجماعات السلفية القيام به من تكوين لجنة للامر بالمعروف و النهى عن المنكر فى اتجاه مخالف لتوجهات الشارع المصرى . ويخشى البعض من ان هذا المد السلفى الذى ظهر فى مصر قد يلقى بظلال مؤثرة سالبة على السودان ، خاصة بعد القول بظهور أنشطة تبشيرية شيعية فى كل من السودان و مصر فى محاولة من ايران لايجاد موطئ قدم فى المنطقة العربية بعد تمدد فى كل من البحرين و سوريا و العراق . أما فى المغرب التى استبق ملكها اجتياح الثورة الشعبية لعرشه باجراء تعديلات دستورية كفلت توسيع السلطات لكل من البرلمان و الحكومة ، بعد مطالبات خرج بها المغاربة الى الشارع فى فبراير الماضى ،مطالبين برحيل رئيس الوزراء و حل الحكومة و اجراء انتخابات مبكرة وتعديلات دستورية تقلل من سلطات الملك . وفى انتخابات اجريت مبكرا حقق (حزب العدالة و التنمية) الاسلامى فوزا كاسحا حائزا على 107 مقعدا من جملة 395 . وقد شكل حزب الحرية و العدالة الذى اعلن منذ البداية بانه سيحكم من منظور سياسى و ليس دينى، حكومة تحالف ضمت 12 من حزبه و 5 مستقلين و نسبة ال40% المتبقية قسمت على الاحزاب الاخرى العلمانية المتحالفة . وفيما يبدو ان الحركات الاسلامية الصاعدة الى السلطة فى دول الربيع العربى تمضى واثقة بمفهوم التحالفات بين الليبراليين و الاسلاميين دون فرض أجندة اسلامية ،انسجاما مع واقع الحال على الصعيدين المحلى المتجلى داخل بلدانهم ، و العالمى و ليس من السائغ ولا من مصلحتهم دعمهم لانظمة قمعية استبدادية مما يعرضهم لسحب البساط من تحت اقدامهم من قبل شعوبهم . وقد اشارت صحيفة الغارديان البريطانية الى ذلك بما جاء فيها ( اتجاه الاسلام السياسى الذى تجلى بعد الاحداث يمثل نموذجا اعتداليا يسمح بقدر اكبر من التحرر وفقا لتعاليم الاسلام )و قد رجحت الصحيفة تجنب الاسلام السياسى تجنبا للدخول فى خلاف مع الداخل و الغرب ... و قال عنهم ايضا بعض الباحثين ( الاسلاميون فى مصر و تونس و المغرب اظهروا ميلا لترتيب اولويات بشكل أكثر و اقعية) . وبرأى البعض حتى القوى السلفية قد أظهرت تراجعا عن مبادئها المتشددة وقد قاموا بتنازلات عديدة تمثلت حتى فى خوضهم الانتخابات بعد ان كانوا يذهبون بأن الانتخابات حرام ،و التظاهر ضد ولى الامر معصية ،و الديمقراطية كفر . فعلى خطى (حزب العدالة و التنمية ) الحاكم فى تركيا يبدو ان الاسلاميين العرب يمضون... فقد تمكن (حزب العدالة و التنمية ) من الحكم بنظام حزب اسلامى فى دولة علمانية باحترام القوى العلمانية دون استفزازها ، فتبنى فكرة الديمقراطية المحافظة للتوفيق بين متناقضات المجتمع... محققا بذلك وحدة سياسية و استقرارا ونموا اقتصاديا . وتمكن بذلك تحقيق فوزا حقيقيا متصاعدا على مدى عشر سنوات منذ 2002 . وقد ذكر الغنوشى صراحة ( لست مثل الخمينى .. لدينا حزب اسلامى ديمقراطى يشبه كثيرا حزب العدالة و التنمية فى تركيا). وقد يتساءل البعض عن الضمانات لتحقيق ما يوعد به زعماء هذه القوى ؟ . الحقيقة الاكثر وضوحا الان هى ان التحدى امام اى قوة تأتى الى السلطة الان هى البقاء فى السلطة بارادة الشعب... ويلخص ذلك الخبير فى شئون الحركات الاسلامية بجامعة درهام البريطانية خليل عنان بقوله : (الشباب الذى قاد الاحتجاجات لن يتهاون فى اى انتهاك للحريات وحقوق الانسان .... و الاسلاميين لن يتمكنوا من تحويل قواعد اللعبة لصالحهم... ). و عليه فان التقارب او التجاوب بين الحكومات العربية الجديدة بوصفها ذات طابع اسلامى وحكومة المؤتمر الوطنى فى السودان يبدو بعيدا باختلاف طبيعة و ظروف كل.... و ليس أدل على ذلك ما جاء على لسان زعيم (حزب النهضة ) التونسى راشد الغنوشى منتقدا نظام الحكم فى السودان ،فقال : ( ان المشروع الاسلامى الذى كان يبشر بالحرية و التجديد و التأهيل لسلطة الشورى و المؤسسية و المجتمع المدنى ، تحول الى حكم قامع مستبد ... يستأثر رجاله بالمناصب و المصالح لانفسهم و اسرهم و ابناء قبائلهم و يزاحمون على الشركات و المشاريع التجارية ... المشروع الاسلامى فى السودان امتداد لعجز أصيل فى تاريخنا السياسى عن ادارة الاختلاف سلبا و المسارعة الى سيف الحجاج و ادارة الدولة العنفية لاقصاء الاخر ). ويرى مراقبون ان الايجابيات على السودان التى يمكن ان يعكسها وجود مثل تلك القوى الاسلامية على قمة السلطة فى بلدان التغيير العربية هى اجبار حكومة المؤتمر الوطنى فى السودان التى ستشعر بمزيد من العزلة ، على ضرورة مجاراة الواقع باقامة تحالفات حقيقية لايجاد حكومة قومية ممثلة لقطاعات الشعب المختلفة ،و ان لم تفعل فطوفان الثورة قادم لا محالة . ولعل ما تسرب من أنباء حول مذكرة الحركة الاسلامية (الاصلاحية) الناقدة للحكومة و المؤتمر الوطنى ما هى الا خطوة فى ذلك الاتجاه .